رد ستيوارت كوهين(*) على مقال ديفيد رودمـــان(**) Middle East Review of International Affairs, December 2001 يعتبر مقال ديفيد رودمان حول نظرية الأمن القومي الوارد في نفس المجلة Middle East Review of International Affairs، تمريناً يستحق كل الإعجاب والتقدير كونه يرتكز على القراءة المكثفة، ولا يمثل فحسب رؤية بارعة الإيجاز لأهم المبادئ التي رسمت معالم تاريخ السلوك الإستراتيجي الإسرائيلي، وإنما يشكل أيضاً إيجازاً تحليلياً لأهم المراحل التي شهدها التاريخ الإسرائيلي. ولأجل هذه الأسباب يستحق المقال المذكور كل الإهتمام والتقدير نظراً للكثير من المزايا التي تمتع بها، مع أن ذلك لا يمنع إبداء بعض الملاحظات والتعديلات، وبالتالي فإن التعليقات التالية تمت إنسجاماً مع هذه الروح، ولا تهدف بأي شكل من الأشكال للمماحكة في التفاصيل الواردة في تحليل رودمان، إنما تهدف إلى تسليط الأضواء نوعاً ما على بعض المعتقدات الهامة فيها. تحقيقاً لذلك الهدف رتبت تعليقاتي كلها تحت عنوانين هامين هما: فرص ضائعة، تصنيفات مفقودة. 1-فرص ضائعة:تحت هذا العنوان رأيت أن أدرج بعض القضايا التي كان من المتوقع أن يأخذها تحليل رودمان بالحسبان، ويبدو لي أنها لم تحظ بالإهتمام في نصه. لا تكمن أسباب ذلك، كما أعتقد في الإفتقار إلى الحيز، (رغم أن الحاجة للحفاظ على إقتضابية المقال واضحة جداً)، إنما تعكس هذه الأسباب مدى الرغبة في توطيد العنصر التحليلي والذي بدوره لم ينجز الهدف الذي يبتغيه المقال. يكمن في لب مقال رودمان وصف وتحاليل لما يسميه "ثمانية مفاهيم أمنية أساسية"، عملت حسب رأيه على "توجيه السلوك والتفكير الإسرائيلي على مدى عمر الدولة". المفاهيم الثمانية التي أوردها رودمان في مقاله هي الجغرافيا، القوة البشرية، الكم ضد الكيف، المناورة الهجومية، الردع، التهديدات التقليدية وغير التقليدية، الإعتماد على الذات، وأخيراً مساندة القوة العظمى. هذا بالتأكيد لا يعدو عن كونه مزيج إختلط فيه جداً الحابل بالنابل. إن نظام ترتيب هذه العناصر ينبغي أن يكون على قدر من الأهمية، على الأقل لابد أن يوفر إشارة للأهمية النسبية التي يرى فيها الكاتب صلة بهذه المفاهيم خلال مراحل معينة من الزمن، يجب أيضا أن تشكل إختباراً للتموجات في درجة ومستوى تعزيز كل عنصر للعنصر الآخر. وكما تبدو الأمور واضحة، فإن رودمان خلط القضايا بعضها ببعض، وأبعدها عن تسليط دائرة الضوء. على سبيل المثال مفهوم "الجغرافيا" وهو أول مفهوم طرحه رودمان في النظرية الأمنية، والذي يرتبط إرتباطاً وثيقاً بغياب العمق الإستراتيجي. فكما يشير رودمان نفسه فإن سكون هذا المفهوم لم يكن سكوناً دائماً في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي، فقد كرس خلال فترة ما بين الفترات وضد بعض الفئات من الأعداء، مبدأ الحرب الهجومية. وأُعتبر ضد أعداء آخرين تفويضاً بالردع. إن مهمة المحلل تكمن بالتأكيد في دراسة هذه التوجهات، ووضع بعض أطر العمل من أجل تفسيرها وشرحها، ولكن للأسف فشل رودمان في إنتهاز فرصة إبراز وعرض قوته. هناك فرص أخرى ضاعت من رودمان وقد يكون ذلك نتيجة للتخبط في المفاهيم. يطبق رودمان مصطلح عام فضفاض وهو مصطلح "مفاهيم" على النقاط الأمنية الثمانية" التي ذكرها. لا شك أن هذا المصطلح يبعث على التضليل، كونه يضفي نوعاً من الغموض على التمييز الواضح بين هذه التصنيفات الواردة في القائمة، والتي أُعتبرت دائماً بمثابة ضوابط أمنية، وبين تلك التي حددت وصنفت "كردود". تحت العنوان الأول تأتي الظروف الناشئة عن صغر دولة إسرائيل، سواء من حيث الحجم أو عدد السكان أو الموارد الإقتصادية، وهي أيضاً الظروف التي طالما إعتبرتها ولازالت تعتبرها أغلب القيادة العسكرية الإسرائيلية عوامل عاملة دائمة، لا تستطيع هذه القيادة التحكم بها تحكماً تاماً، بيد أنه ينبغي في هذا الصدد أن تميز من زاوية تحليلية عن المفاهيم الأخرى التي تضمنتها الإستراتيجية التي وضعت من قبل نفس القيادة العسكرية، في سبيل التصدي لهذه المشاكل. يشكل التفضيل التقليدي الذي يوليه الجيش الإسرائيلي لمبدأ "الوقائية" العسكرية المتعلق بنقل ساحة المعركة إلى داخل أرض العدو ولمبدأ الإعتماد على النفس (على سبيل المثال)، ردود أختيرت إختياراً متعمداً من ضمن قائمة واسعة من الخيارات المحتملة. نفس الشيء قد يقال عن "مساندة القوة العظمى" وعن النتائج السريعة التي قد تتمخض عن ساحة المعارك. وهكذا فإن رفض إستخدام "مفاهيم" عامة فضفاضة والإصرار على التمييز بين "الضوابط" و "الردود" لا يعتبر مراوغة وقفزاً عن الدقة في إختيار المعاني والألفاظ. بعد أن نقر بأن بعض المفاهيم الواردة في قائمة رودمان، ما هي إلا مجرد ردود مفضلة على ضوابط حسية نستطيع أن نحكم أنه، أي رودمان، وُفِّق في إختيارها. فتصنيف إستخدامات إسرائيل للقوة يكشف حقاً عن طيف واسع لإستخدامات هذه القوة، ومن غير الصعب إدراك أسباب ذلك. الأغلبية العظمى من أولئك الذين صاغوا وطبقوا النظرية الأمنية الإسرائيلية كانت برغماتية أكثر من غيرها، ومع أنها تفضل أنماطاً معينة من السلوك الإستراتيجي، إلا أنه نادراً ما أتاح هذا التفضيل أن يملي تصرفاتها. عند الفشل في إكتشاف مواطن نفوذ وسيطرة النبرة البرغماتية في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي، يكون رودمان قد ضيع فرصة إكتشاف آثارها الإيجابية والسلبية على السواء، علماً بأنها تستحق التوقف عندها. بإختصار فإن أكثر ميزة واضحة للفكر الإستراتيجي الإسرائيلي التقليدي المتعلق بالأمور الأمنية، تكمن بلا شك في هذا الحجم الهائل من الليونة التي منحتها للسلوك الأمني القومي. أما أبرز مساوئها الصارخة، من جانب آخر، أنها حرفت جميع محاولات تشكيل نمط نظرية أمنية قومية متناسقة ومتماسكة خاضعة لموقف دوري مفوض دستورياً. حقيقة الأمر أن صياغة نمط السياسات الأمنية الإسرائيلية يميل إلى حد كبير إلى العشوائية، وإلى نزوات قادة سياسيين وجنرالات أكثر ما يميل إلى عملية منظمة تقوم على التحليل العقلاني. لقد وجه ديفيد بن غوريون طعنة لمحاولات رسم معالم إستراتيجية أمنية تضم العناصر العسكرية والسياسية، علماً بأنه أي بن غوريون هو الذي أدخل مثل هذه المفاهيم التي تسمى "الردع" والإفتقار إلى العمق الإستراتيجي، إلى القاموس الأمني الإسرائيلي، بيد أن محاولته هذه لم تأخذ الطابع الرسمي، والأهم من ذلك كله لم يتم وضع إطار عمل دستوري كي يتسنى تكرار مثل هذه المحاولة. لم ينجح رودمان في تذكيرنا بأن هناك الكثير من المراقبين من إنتقد منذ زمن بعيد حقيقة غياب مجلس أمن قومي قوي محصن، يستطيع أن يقاوم كافة الضغوطات المبتذلة ويعمل من ناحية أخرى على تطوير إستراتيجية متناسقة بعيدة المدى، تقوم على أساس التقييم المفصل وتصنيف كثير من المصطلحات التي سردها رودمان في قائمته "كمفاهيم". ما من شك أن أول ضحية لهذا الوضع كان جيش الدفاع، بيد أن هذا الأمر يثير الإستغراب كون الجيش هو الطرف الذي تزعم سنوات طويلة معارضة إنشاء مجلس أمن قومي، وهو المسؤول بدرجة كبيرة عن عدم تمكن هذه المؤسسة التي شكلت عام 1999 من ممارسة أي نفوذ يذكر. يتعين على المستعيد للأحداث في هذا الصدد أن يتذكر أن مثل هذه السياسة هي سياسة قصيرة النظر، فهؤلاء الجنرالات الإسرائيليون المحرومون من توجيهات إستراتيجية واضحة، والذين لم يأُخذ برأيهم رسمياً في أي حوارات دورية بين أنصار وجهات النظر المختلفة داخل النخبتين المدنية والعسكرية، مالوا إلى حد بعيد للعيش حياة التقشف. وبدلاً من أن يحاولوا وضع مفاهيم للأسس والمبادئ التي تحدد أطر مهماتهم، راحوا في المقابل يطربون لهز الكتف وترديد لحن "إين بريرا" و معناها بالعربية لا خيار. 2-تصنيفات مفقودة:مع كل الشمولية التي تضمنتها مقدمة رودمان، إلا أنها تظل مقدمة ناقصة في بعض النواحي. فعلى الرغم من أن هذه المقدمة لمست بعض النقاط الرئيسية، إلا أن الطريقة التي عالجت بها غزارة الفروقات الدقيقة في معانيها كانت مجحفة نوعا ما، وبناء على ذلك فالحاجة إلى الحفاظ على إقتضاب المقال هي التي أدت إلى ظهور هذه الناحية. لكن هذا التقيد زاد من حدته بسبب صرامة الإطار التحليلي الذي تبناه الكاتب. هناك مثل واضح على الفشل الناجم عن إكتشاف وشرح بعض المواضيع الهامة بتعمق أكثر، وهو تحليل رودمان لعنصر الردع. لقد أصاب رودمان عندما وصف مبدأ الردع بأنه مفهوم نسبي جداً في النظرية العسكرية الإسرائيلية، وكان موفقاً جداً في سرد أمثلة على مظاهر هذا الردع. ومع ذلك كان القارئ يتمنى أن يقترب الكاتب أكثر لشرح هذا الموضوع. كما نعرف الردع هو مظلة بحد ذاته يمكن تقسيمها إلى نوعين "الردع السلبي" و" الردع عن طريق العقاب". لقد بحث المرحوم أفنير يانيف منذ سنوات طويلة في طريقة تطبيق إسرائيل لهذين النموذجين مبيناً كيف تموج إستخدامها مع مرور الزمن. أما حديثاً فقد أيقن كل من إفرايم عنبار وشموئيل ساندلر أن "الردع" الإسرائيلي بكلا مظهريه عانى من القضم. وبالمناسبة كان يتمنى المرء من رودمان أن يشير إلى هذه الدراسات ويُبيِّن كيف يمكن أن تركب نتائج هذه الدراسات على "المفاهيم" التي تضمنتها قائمته، ليظهر بشكل قاطع مدى تداخل بعضها البعض. أيضاً الإعتبارات المجتمعية تمثل نموذجاً آخر، لكن مختلف بالنسبة للتصنيف المفقود. رودمان بالتأكيد حساس جداً فيما يتعلق بأهمية الدور الذي تلعبه هذه العوامل في الفكر الأمني الإسرائيلي والتي أطلق عليها "الضوابط" و "القيود". لكن الذي حدث هو أن رودمان لم يشر إشارة واضحة في تحليله لما سماه مايكل هوارد منذ زمن بعيد "بالبعد الإجتماعي للإستراتيجية"، بل على العكس حصر تحليله للنفوذ والتأثير الذي يمارسه الحجم والتركيبة السكانية في إسرائيل على النظرية الأمنية، ضمن مبدأين أساسيين وهما "القوى البشرية" و"الكم ضد النوع". حقيقة هذا شيء يؤسف له لأن تنزيل رودمان من شأن العوامل الإجتماعية إلى مجرد أشياء ثانوية مستقلة بحد ذاتها، يكون بذلك كمن أهمل أهم عنصر مستقل في الفكر الأمني الإستراتيجي، وواحد من أكثر العناصر أيضاً التي يلاحظ فيها هذا المدى الواسع من التغيير. في هذا الصدد أيضاً نرى أن التوضيح بحاجة إلى توضيح. فرغم الجهود المضاعفة التي يبذلها الجيش فيما يتعلق بالإحترافية المطلقة، إلى أن القوة لازالت ماضية في التشبث بنظام خدمة عسكرية ترتكن إلى مبدأين أساسيين للتجنيد العام (لليهود الذكور والإناث)، وكذلك على الواجب الإجباري لأداء الخدمة العسكرية، هذا الإطار الميليشي يساعد جداً بل يدعم الصورة التقليدية للجيش الإسرائيلي كجيش شعبي، فضلاً عن أن هذا الإطار أيضاً يساعد جداً في تعزيز طابع الشعب الإسرائيلي-اليهودي "كأمة عسكرية". ومع ذلك كما يشير بعض المراقبين لم تعد تشكل معلماً واضحاً من معالم الإستراتيجية الإسرائيلية رغم هذا الإنطباع السطحي عن التمطيطية الهيكلية والديمومة الثقافية. وبدلاً من ذلك أصبحت الخدمة العسكرية، التي شكلت ذات مرة أحد بل أهم مكونات الدين المدني في إسرائيل، مهمشة جداً في كثير من الأوساط. وعلى هذا النحو فقد أخذ تقدير الجمهور وإعجابه بالقوة يتآكل شيئاً فشيئاً. بعد أن كانت النخبة العسكرية أعز أحباب الصحافة ووسائل الإعلام في يوم من الأيام، أضحت الآن الشغل الشاغل لإنتقادات وسائل الإعلام التي تزداد في عداوتها يوماً بعد يوم وتتلذذ في كشف وتعرية قضايا حساسة كسوء الإدارة والفساد، وأحياناً العجز الفاضح في كل مستوى من مستويات القيادة. لا شك أن هذه العملية تجاريها مظاهر أخرى غير مسبوقة، كالإستعداد المتنامي للمحاكم القانونية للدخول عنوة إلى مجالات كانت من السابق في أشد المحرمات العسكرية، وكالتسامح المتنامي مع ما يسمى "بالإعتراض الضميري"، على أداء الخدمة العسكرية من قبل اليمين واليسار من مختلف ألوان الطيف السياسي والإحتكاك المتفاقم بين كبار الضباط العسكريين والنخبة السياسية، ولا نغفل أهم هذه المظاهر وهي البوادر الواضحة على أن المجتمع لم يعد مستعداً على نطاق واسع لدعم ومساندة مخاطر وأعباء ما ينجم عن حالة الإعلان عن الحرب. ولمعرفة سبب نشوء هذه الظاهرة فالأمر متروك لحلقات النقاش التي تعقد حالياً، بيد أن الأهم في الوقت الراهن هو عواقب وتداعيات ذلك. لقد أوحى رودمان نفسه إلى قرب إنتهاء مقاله بإستخدام إصطلاح "ما بعد البطولة"، مستدلاً باليوت كوهين في تطبيق المرحلة المعاصرة من مراحل تطور إسرائيل بشكل عام، وقد ينطبق الآن بشكل خاص على نظريتها الأمنية القومية. ومع ذلك وللأسف فإن رودمان لم يأخذ هذه الفكرة بعين الإعتبار في الخاتمة، بل إمتنع عن السؤال حول الكيفية التي أثرت بها على كثير من المفاهيم التي إستخدمها. لنأخذ على سبيل المثال تحول الجيش الإسرائيلي الواضح نحو تفضيل إستخدام القوة النارية على مبدأ المناورة، ومن ثم إستخدام الأسلحة عن بعد بدلا من قوات المشاة مباشرة. أما ليأتي رودمان ويقول أن هذه التحولات ناجمة في المقام الأول عن التطورات التكنولوجية ما هو إلا جزء من الحقيقة، إذ تشير التحليلات إلى أن هذه التحولات هي وليدة ضغوطات إجتماعية المغزى الرئيسي منها هو تقليص حجم وعدد القتلى العسكريين إلى أدنى مستوى. يجب التنويه هنا إلى أن هناك إعتبارات مشابهة تشكل في مضمونها محركات أساسية للتغير في مجالين مختلفين من مجالات السلوك العسكري، وهما نشر القوة (وخاصة الإستخدام النسبي المحدود للإحتياط المقاتل في المرحلة الأولى من حرب لبنان وفي العام الأول من إنتفاضة الإقصى)، وتركيبات القوة (وأبرزها هذا التحول نحو زيادة مستوى الإحترافية والتحديث في الجيش). يبقى أن نلاحظ بشكل دقيق كيف أن هذه العمليات يمكن أن تجيز إجراء تعديلات على عناصر أخرى من عناصر السلوك العسكري التقليدي. ما كان واضحاً هو أن الحاجة لتقييم المعيار الدقيق لتضاعف أجزاء النظرية الأمنية القومية أصبحت تشكل الآن أبرز التحديات الإستراتيجية الإسرائيلية. كما أشار رودمان في فقرة الخاتمة، تشهد النظرية الأمنية حالياً فترة من الذوبان ولا يمكن أن يعزي ذلك الوضع إلا إلى التغيرات الأساسية الحاصلة في الحالة الجيو إستراتيجية الشاملة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وإلى المناخ التكنولوجي- العسكري، الذي قد لا يقل شأناً عن الناحية الأولى. وعلى نفس القدر من الأهمية توجد الضغوط التي تمارسها التغيرات الثقافية المحلية، التي تكمن جذورها وتترسخ في التحول في التركيبة والهيكلية والقيم التي تعتنقها شرائح مختلفة من المجتمع الإسرائيلي. قد يكون رودمان مصيبا حين يختم مقاله بالقول "لو كان الماضي دليل المستقبل، لكانت النظرية الأمنية تتضمن حلولاً تفي بواجب الدفاع عن بقاء الدولة"، بيد أن هذا البروز المتنامي للإعتبارات المجتمعية ذي عامل ذو أهمية في الإستراتيجية العسكرية، يستوجب من صناع السياسة والمحللين تطوير أطر عمل ومفاهيم حديثة تتناسب ومع الواجب المتناول. حتى وإن كانت قوائم فحص المبادئ القديمة مفيدة بدون أدنى شك فهي لا يمكن أن تشكل بديلاً عن أساليب الفكر والتصرف الخلاقة. رد ديفيد رودمان على ستيوارت كوهينبداية أود أن أشكر ستيوارت كوهين على إنتقاداته المثيرة لما ورد في مقالي، وأقول فيما يتعلق بالتهمتين اللتين وُجهتا لي إنني مذنب في هذا الصدد. الأمر الغير قابل للنقاش هو أن هذا المقال لا يعتبر كلمة الفصل في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، سواء من الناحية الوصفية أو من الناحية التحليلية. لكن الغرض من هذا المقال هو ببساطة عرض رؤية تعمل على تحفيز الفكر الخاص بهذه النظرية، وذلك عن طريق وصف و تقييم ما أعتبره بالمكونات الصلبة. زد على ذلك أن أي إطار لتفتيت شيء مكتمل يحتوي على جميع العناصر إلى أجزاء مطوعة لغرض الوصف والتحليل هو بمثابة تبسيط هذا الشيء المكتمل إلى حد يؤدي إلى التشويه وسوء الفهم بطريقة أو بأخرى. وعلى هذا الأساس فإن أي إطار قد يستنبطه كوهين كي يستبدل إطاري به، لا يمكن أن يفلت من هذه الإنتقادات. ومع أنني أقر بأن كوهين ملم بالموضوع وخبير به أكثر مني، إلا أنه كان من الأجدر أن يأتي بموضوع يتضمن وصفاً دقيقاً وتحليلاً شاملاً لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي. فرص ضائعة:لننحي التعليقات الخاصة بالمقدمة جانباً، ونحاول في الوقت نفسه الرد على الإنتقادات المنهجية والجوهرية ونبدأ "بالفرص الضائعة". أنا على سبيل المثال لست على قناعة أن بالإمكان تنسيق وترتيب المكونات المختلفة لنظرية الأمن القومي الإسرائيلية ضمن نظام عام على قدر من الأهمية. مثلا تاريخ الدولة بشكل عام، هل يمكن إقناع المرء بأن الإعتبارات الإقليمية فاقت في تأثيرها تأثير الإعتبارات السياسية أو البشرية؟، بالنسبة لي فإن جميع المكونات التي وردت في مقالي كانت حيوية من حيث تشكيل نمط هذه النظرية على مدى عمر الدولة. صحيح أنه كان لبعض المكونات تأثير يزيد على تأثير المكونات الأخرى في نقاط مميزة منفردة في زمنها، كنشأة التهديدات غير التقليدية، ولا سيما تلك التي تشكلها أسلحة الدمار الشامل، إلا أن الضرورة تقتضي تقسيم نظرية الأمن القومي إلى فترات تاريخية، بغية تحديد أي المكونات مهمة وأيها غير مهم خلال فترة ما من فترات عمر الدول. وبدلاً من أن نبني نهجاً تسلسياً زمنياً محصناً، إرتأيت مع ذلك إختيار نهجاً يرتكز على الفكرة الرئيسة التي لا تربط بين المكونات المختلفة للنظرية الأمنية فحسب، بل تقيمها على مدى الزمن من حيث التباين بين الحرب التقليدية وغير التقليدية. إيماني الراسخ يقوم على أساس أن هذه الوسيلة من التنظيم توفر لمحة عن مكونات النظرية الأمنية الإسرائيلية، وكذلك عن الروابط بينها أعظم مما يوفرها النهج التسلسلي الزمني المحض. أما فيما يتعلق بتعليقات كوهين حول المصطلحات فهو مصيب وعلى حق، حيث أن كلمتي "ضوابط" و"ردود" أكثر دقة وإثارة من كلمة "مفاهيم" التي أعترف بأن هناك شيء من الغموض يكتنفها، ومع ذلك أشعر جداً أن مماحكته هي في المقام الأول حول القضية الخاصة بالمعاني. فخلال نقاشي حول الجغرافيا والقوة البشرية والكم ضد الكيف….إلخ، أشرت بالتأكيد إلى "الضوابط" التي عملت إسرائيل بناءً عليها في مراحل مختلفة من الزمن، وأشرت أيضاً وحددت ردودها المختلفة خلال هذه المراحل. وأخيراً وقبل الإنتقال إلى "التصنيفات المفقودة" أود أن أُنهي بتعليق جوهري مقتضب حول البراغماتية ضد التخطيط الإستراتيجي. لم أكن أنوي بالتأكيد القول بأن النظرية الأمنية الإستراتيجية لم تكن سوى ردود براغماتية على الضوابط التي ينبغي على الدول العمل بناءً عليها. أتفق جداً مع كوهين حول هذه القضية، بيد أنني أختلف معه ومع آخرين حول شيء وهو أن التخطيط الإستراتيجي مس بدون أدنى شك بالأمن القومي للدولة. أولاً: و أنا متأكد أن كوهين يتفق معي حول ذلك، هو أن إسرائيل قامت بعمل جدير بالملاحظة لحماية أمنها القومي طيلة نصف القرن الماضي، فهي لم تترعرع من دولة هزيلة فقيرة إلى دولة قوية مزدهرة فحسب، بل حولت نفسها أيضاً إلى قوة عظمى إقليمية تضاهي حسب المعايير الدولية أي دولة أوروبية متوسطة القوة، كل ذلك بدون الإستفادة من هذه "الإستراتيجية" المدمج بعضها ببعض. ثانياً: في حين أنني لا أريد قطعاً ترك الإنطباع بأن التخطيط الإستراتيجي أمر سيئ فهو لم يصل بالضرورة إلى حد النجاح، وخير مثال على ذلك ألمانيا النازية والإتحاد السوفيتي. فهاتين الدولتين كانتا تمتلكان إستراتيجيتين عظيمتين متناسقتين مترابطتين، إلا أن الأمر إنتهى بهما إلى مزابل التاريخ في فترة قصيرة من الزمن. الواقع هو أن إسرائيل ارتكبت أخطاء في الماضي، بيد أنه ليس هناك أي ضمان في أن تحتل مكانة أفضل اليوم إذا أرادت أن توجهها وتُسيِّرها إستراتيجية واحدة مدمجة بدلاً من حلول خاصة بهذا الشأن. تصنيفات مفقودة:قبل الرد على تعليقات كوهين حول الأجزاء المفقودة من نظرية الأمن، أود الإشارة هنا بإختصار إلى أن كلينا كنا غافلين عن شيء، وهو السياسة الإستراتيجية الإسرائيلية نحو الدول غير العربية، والجماعات العرقية-الدينية المنشقة في الشرق الأوسط. بالنسبة للأولى تبنت إسرائيل ما أصبح يسمى "بسياسة الجوار"، بمعنى آخر تحالفت مع دول غير عربية كتركيا وإيران في فترة ما من الفترات، وذلك بناء على مصالح أمنية مشتركة، وعلاقة إسرائيل الإستراتيجية في الماضي بشاه إيران وعلاقاتها الراهنة بتركيا معروفة ولا تحتاج إلى تفصيل. يكفي القول هنا أن هاتين العلاقتين قد عادتا بالفائدة على إسرائيل وشركائها. أما بالنسبة للثانية فقد شهدت إهتماماً إسرائيلياً بتقديم المساعدة لجماعات مختلفة كالأكراد في العراق والأفارقة في السودان ومسيحيي لبنان، مع أن النتائج لم تكن مشجعة كثيراً. والواقع هو أن هناك باحثاً محترماً أكد بكل وضوح على أن التدخل الإسرائيلي في الشؤون العربية الداخلية لم يعزز أيضاً الأمن القومي للدولة. ففي حالة لبنان كما يقول الباحث، فقد مس ذلك جداً بالأمن القومي إلى أبعد الحدود، وقد يكون هذا التوجه العقلاني هو الذي يفسر تحفظ إسرائيل الأخير على دعم هذه الجماعات العرقية والدينية. فيما يتعلق بمفهوم الردع إرتأيت أن أتحدث فيه من حيث التمييز الإسرائيلي الشائع بين ما هو عام وما هو محدد، لأنني إعتقدت أن هذا الإطار من المرجعية ينسجم مع حرية المقال. وبما أن مفهوم الردع يغطي طيفاً واسعاً من السلوك، إذن يستطيع المرء أن يبحث في التصرف الإسرائيلي في ضوء أفكار أكثر أكاديمية، كالردع السلبي على سبيل المثال وهو القدرة على إيقاف الخصم من المبادرة إلى عمل عن طريق تبني إجراءات دفاعية، وكذلك "الردع بالعقاب" والمتمثل في القدرة على منع الخصم من المبادرة إلى عمل ما عن طريق الدفاع عن النفس من ناحية، والقدرة من ناحية أخرى على فرض ثمن غير مقبول عليه بتوجيه ضربة إنتقامية. لا أعتقد أن إفرايم عنبار وشموئيل ساندلر مصيبان في التأكيد على أن حالة الردع الإسرائيلية في كلا المجالين تدهورت على مر الزمن خصوصاً فيما يتعلق بالحروب الصغيرة. وكنتيجة لعملية أوسلو السلمية أتاحت إسرائيل نشوء جيش إرهابي يتعسكر على حدودها الجنوبية والشرقية، فاقدة بذلك قدرتها السابقة على حرمان أي جيش فلسطيني من هذه الأراضي، فضلاً عن ذلك فإن تطبيق مبدأ توجيه الضربات الإنتقامية القاسية لم يكن له ذلك التأثير الوقور على الجماعات الإرهابية في العقد الماضي مثلما كان عليه الأمر في العقود السابقة. من جانب آخر أنا لا أعتقد أنه في ظل عالم الحروب الشاملة وإنتشار أسلحة الدمار الشامل أن الردع الإسرائيلي السلبي أو الردع بالعقاب إنقضما مؤخراً، لأنه ليس هناك أي جيش عربي بادر إلى شن حرب شاملة ضد إسرائيل منذ عام 1973، كما أنه ليس هناك أي دولة عربية تجرأت على مهاجمة إسرائيل بأسلحة الدمار الشامل، حتى وإن كان العراق قد شن هجوماً بالصواريخ البالستية على إسرائيل إبان حرب الخليج عام 1991، إلا أنه تحاشى جداً تسليح هذه الصواريخ برؤوس حربية غير تقليدية. أخيراً أريد أن اختم ردي على كوهين بكلمات قليلة حول موضوع تأثير التغيرات المجتمعية على نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، لأن هذا موضوع يثير إهتمام خاص عندي. أتفق مع كوهين على أن المجتمع يشكل متغيراً هاماً ومع ذلك أشَّرت بشكل سريع وعن تردد إلى هذا المتغير، لأنه حسب رأيي من المبكر جداً إطلاق أي تصريحات محددة حول تأثير هذا المتغير على نظرة الأمن القومي على المدى البعيد. لقد إتسم المجتمع في أغلب مراحل تاريخ دولة إسرائيل بالثبات والإستقرار، إذ أن الجمهور الإسرائيلي قدم كل التضحيات التي طلبتها الدولة منه. وللتأكيد فإن دمدمات الإنشقاق لم تسمع إلا عشية حرب عام 1973، وبدأت تكتسب قوة أثناء حرب لبنان عام 1982. ومهما يكن من أمر فإن هذه الأمور التي تحدث عنها كوهين بشكل مرتب، كالفجوة المتنامية بين المجتمع والجيش والرغبة المتقلصة لشرائح مؤثرة في المجتمع للخدمة العسكرية وتغيير الجيش لهيكلية القوة، أصبحت تلاحظ بشكل واضح جداً حتى وإن كانت رياح بعض هذه الإتجاهات خبت نوعاً ما في ظل الأحداث التي يشهدها الآن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، والتي فتحت أعين حتى أكثر الناس حمائمية في المجتمع الإسرائيلي. ومع أنني كنت أؤيد وجهة نظر كوهين حول التأثير المحوري للتغيرات المجتمعية على نظرية الأمن القومي، فلا زلت أعتقد أن للحرص مكاناً عند إستخلاص الإستنتاجات في هذا المجال، وقد يخفي المستقبل العديد من المفاجآت. ترجمة: زهير عكاشة(*) ستيوارت كوهين، دكتور في جامعة أكسفورد وعميد شئون الطلاب، وأستاذ الدراسات السياسية في جامعة بار إيلان، وباحث في مركز بيغن-السادات، يعمل أستاذاً زائراً في مركز جامعة هارفرد للدراسات اليهودية، وهو الآن زميل زائر بجامعة كيب تاون. (**) أنظر مقال ديفيد رودمان حول النظرية الأمنية الإسرائيلية في مجلة مركز التخطيط الفلسطيني، العدد الثالث والرابع -يوليو-ديسمبر 2001، ص 188-207. |
|