النظرية الأمنية الإسرائيلية

Middle East Review of International Affairs, Vol. 5 No. 3 (September 2001)

الكاتب: ديفيد رودمان(*)

 واجهت إسرائيل عبر تاريخها تحديات كبيرة لأمنها القومي، ورغم ذلك، فهي لم تقم أبداً بالإعلان عن جميع عناصر نظريتها الأمنية القومية. غير أن تعاطيها مع تلك التحديات لم يكن أبداً عشوائياً، حيث توجد مجموعة من المفاهيم الأمنية التي ساعدت في التعرف على السلوك الإسرائيلي فيما يتعلق بالصراعات الصغرى والكبرى والحروب التي تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، علماً بأن الجانب العملياتي "لبعض هذه المفاهيم ظل مستقراً" على مدى الأيام ، بينما تطورت مفاهيم أخرى لتتماشى مع الظروف الداخلية والخارجية المستجدة للدولة.

تكاد لا توجد هناك دولة، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قلقت على أمنها القومي أكثر من إسرائيل، وليس من الصعب سبر غور ذلك. فلقد خاضت إسرائيل منذ نشأتها قبل نصف قرن حروباً شاملة ضد جيرانها العرب. خاضت حرب الإستقلال 1948-1949، ثم حملة سيناء 1956، وحرب عام 1967 وحرب الإستنزاف عام 1969 وحرب 1973 ثم حرب عام 1982. بمعنى آخر، خاضت إسرائيل كل عشر سنوات حرباً شاملة خلال العقود الخمسة من عمرها، ناهيك عن مشاركتها السلبية على الأقل في حرب الخليج عام 1991 عندما قصف العراق أراضيها بالصواريخ البالستية، وربما تكون قد شاركت بفاعلية في البحث عن تلك الصواريخ وتدميرها في غربي العراق. علاوة على ذلك ورغم معاهدتي السلام الرسميتين بين إسرائيل من جهة ومصر والأردن من جهة أخرى، وكذلك تفوقها بلا منازع في مجال الأسلحة التقليدية، فقد ظل تهديد نشوب حرب إسرائيلية-عربية تهديداً حقيقياً لغاية الآن. كما توسع هاجس الأمن القومي الإسرائيلي وامتد ليتعدى ساحة المعارك التقليدية. فعلى الطرف المنخفض لطيف الحرب غير التقليدية، تتعرض إسرائيل لموجة عنف مستمرة على شكل إرهاب وحرب عصابات (فلسطينية ولبنانية ترعاها في أغلب الأحيان دول عربية وايران) وكذلك لعصيان مسلح (فلسطيني) ومناوشات حدودية (مع مصر وسوريا ولبنان والأردن). وعلى الطرف التالي لطيف الحرب غير التقليدية، تواجه إسرائيل، ومنذ الستينات خطر الحرب الكيماوية بعد إستخدام مصر للغازات السامة في اليمن واستخدامها كذلك من قبل جهات أخرى في حرب الخليج. وبرز خطر الحرب الجرثومية والنووية كتهديد حقيقي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. لقد تعاملت إسرائيل مع خطر التهديد النووي بجدية تامة أوائل الثمانينيات لدرجة أنها أرسلت طيرانها الحربي لتدمير المفاعل النووي العراقي أُوزيراك في ربيع عام 1981. ومهما يكن من أمر، فإن الافتقار إلى نظرية أمنية قومية رسمية وكذلك تأثير خبرات الدولة وبيئتها أقنعا المخططين العسكريين الإسرائيليين بدراسة سُبل صياغة طاقم من المفاهيم الأمنية الاساسية. فمن ناحية، كانت هذه المفاهيم تشكل تعاطي إسرائيل مع المناخ الجغرافي و السياسي والبيئي الذي لابد أن تعيش فيه. ومن ناحية أخرى فإن تجارب الدولة وقت الحرب ووقت السلم ساعدت في تشكيل نمط هذه المفاهيم. وبما أنها تطورت خلال منعطفات زمنية متعددة ولم تدمج ضمن قضايا مرتبطة ببعضها تمام الإرتباط كنظرية أمنية قومية متناسقة ومرتبة، فقد وجهت هذه المفاهيم وقادت التفكير والسلوك الإسرائيلي منذ نشأة الدولة لدرجة أنه يمكن تنظيمها و تنسيقها في إطار خاص وتحت عناوين ثمانية متميزة وهي: الجغرافيا، القوة البشرية، الكم ضد النوع، المناورة الهجومية، الردع، التهديد التقليدي في مواجهة التهديد غير التقليدي، الإعتماد على النفس ودعم القوة العظمى. وبناء على هذا الأساس، فإن هدف هذا المقال يتجلى في وصف وتحليل هذه المفاهيم من زاوية تاريخية، بمعنى تقصي تطورها ودراسة أسباب صمتها وسكونها بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي على إمتداد سنوات عُمْر الدولة.

ينبغي في هذا السياق التركيز على أمرين مهمين: الأول وهو كما ورد في أسماء العناوين، أن هذا المقال يُعرِّف مفهوم الأمن القومي تعريفاً ضيقاً، إذ أن النظرية الأمنية بمعناها الفضفاض تضم في طياتها كافة السياسات العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية ويتضح منها أنها تهدف إلى حماية وتعزيز المصالح الأمنية القومية للدولة.

حسب ما ورد في هذا المقال، فإن مفهوم الأمن القومي ينحصر في مجال الدفاع القومي مع أنه يركز على النظرية العسكرية الإسرائيلية. الثاني: رغم محدودية الناحية التفسيرية لهذا المقال، فإنه لا يمكن أن يقال أنه أعطى شرحاً كاملاً لهذه العقيدة بل سلط الأضواء على المفاهيم الأساسية التي تشكل نواة هذه النظرية.

الجغرافيا:

لقد تأثرت النظرية العسكرية الإسرائيلية من الناحية التاريخية بالوضع الجغرافي، ورغم أنها خرجت من حرب الإستقلال 1948-1949 منتصرة وحصلت على كم من الأراضي يتجاوز ما خصص لها بموجب قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، فإنها واجهت الكثير من المشاكل الحدودية بعد هذه الحرب. لم يكن من السهل الدفاع عن هذه الحدود الطويلة. وخير دليل على ذلك مدى السهولة التي إستطاع بها حتى المتسللون العرب عديمو الخبرة من إجتياز الأراضي الإسرائيلية إبان الفترة الأولى من قيام الدولة. أضف إلى ذلك إفتقار إسرائيل إلى العمق الاإستراتيجي، إذ أن عرض الدولة يضيق كثيراً في بعض المناطق ليصل إلى بضعة أميال ولا يتعدى عشرات الأميال في أفضل الأحوال، كما أن أهم مراكز التجمعات السكنية والمرافق الصناعية والعسكرية تقع ضمن مرمى الجيوش العربية، هذا الوضع الجغرافي أَرغم المخططين العسكريين الإسرائيليين في بداية الأمر على التوصل إلى استنتاج وهو أن إسرائيل لا تستطيع أن تخوض حرباً شاملة، أو حرباً مهما صغرت، على أراضيها. فالحرب الصغرى التي قد تدور رحاها على الأراضي الإسرائيلية، كما يرى المخططون العسكريون الإسرائيليون، ستضر كثيراً بالمجتمع الإسرائيلي في حين أن الحرب الشاملة ستقوض وستعرض بقاء الدولة للخطر. هذا التفكير هو الذي نفخ الروح في المفهوم الذي ينادي بضرورة نقل الحرب إلى الأراضي العربية مهما يكن الأمر. ولقد أثر هذا جداً على الأسس العملياتية والتكتيكية الخاصة بالجيش الإسرائيلي. بالنسبة للحرب الشاملة، شكل الوضع الإقليمي الإسرائيلي في الفترة الواقعة ما بين الأعوام 1949 إلى 1967 جزءاً من تفهُّم حرصها وتفسيرها للحربين الوقائية والإستباقية خلال هذه السنوات. فإسرائيل تختلف عن الدول الأخرى التي لها إما حدود تتيح لها منع جيوش مهاجمه من إختراق أراضيها مثل سويسرا مثلا، وأما أن يكون لها عمق إقليمي يمكن أن يتقهقر جيشها إليه ليعيد تجميع نفسه وبالتالي طرد الجيش المعادي من أراضيه مثل روسيا. فإسرائيل ما قبل عام 1967 لم تكن تمتلك أياً من هاتين الميزتين. ومن ثم كان لابد لها من أن تخوض حرباً وقائية عام 1956 وأخرى استباقية عام 1967.

فيما يتعلق بالحرب الصغرى، فقد عزز الوضع الجغرافي الإسرائيلي في الفترة الواقعة ما بين 1949-1967 من حرصها على مبدأ الرد. ولأن الجيش الإسرائيلي لا يملك الطاقة البشرية ولا الموارد المادية التي تساعدها على إحكام إغلاق حدودها ضد متسللين مسلحين، فقد توصل المحللون العسكريون والخبراء في الجيش الإسرائيلي إلى إستنتاج وهو أن إسرائيل بحاجة إلى تعاون الدول العربية المجاورة من أجل إستتباب الأمن والسلام على حدودها. لذلك حاولت إسرائيل ارغام الدول العربية على وقف أعمال التسلل هذه، وذلك عن طريق فرض ثمن يمكن أن تدفعه شعوبها وجيوشها من وراء الرد على أعمال التسلل.

لقد غيرت نتيجة حرب عام 1967 الوضع الإقليمي للصراع العربي الإسرائيلي تغييراً جذرياً. فإسرائيل لم تحطم فقط الجيوش المصرية والسورية والأردنية، بل أيضاً إستطاعت إحتلال مساحات لا بأس بها من أراضي تلك الدول، إذ انتزعت سيناء وقطاع غزة من مصر والضفة الغربية من الأردن ومرتفعات الجولان من سوريا الأمر الذي وفر لها جزءاً من العمق الإستراتيجي، حيث لم تعد مراكز التجمع السكاني فيها والمرافق الصناعية والعسكرية في مرمى الجيوش العربية أو القوات غير النظامية فضلاً عن أن لإسرائيل الآن حدوداً تذود عنها. شكلت الحدود الجديدة مواقع طبوغرافية عسكرية فاعلة كقناة السويس ونهر الأردن والمناطق الجبلية في يهودا والسامرة والأهم من ذلك أن طول الحدود نفسها تقلص كثيراً.

في الوقت الذي لم يؤثر فيه وضع إسرائيل الإقليمي ما بعد عام 1967 كثيراً على الأسس العملياتية والتكتيكية للجيش الإسرائيلي فهو من ناحية أخرى أثر كثيراً على النظرية الأمنية. إذ أن حربين من أصل ثلاث حروب شاملة خاضتها إسرائيل في مرحلة ما بعد عام 1967 كانت بمبادرة عربية في حين بادرت إسرائيل لشن حربين من أصل ثلاث حروب سبقت عام 1967. الواقع هو أن الحرب الوحيدة التي بادرت إسرائيل إلى شنها بعد عام 1967 حدثت عبر الحدود مع لبنان حيث كانت إسرائيل هناك تفتقر  إلى العمق الإستراتيجي، علماً بأنها كانت الحدود الوحيدة التي طالما تعرض فيها المواطنون الإسرائيليون بشكل روتيني إلى عمليات تسلل إرهابية وهجمات بالصواريخ. وللتأكيد فإن قرار إسرائيل بالمبادرة أو بعدم المبادرة إلى الحرب لم يقم فقط على أسس واعتبارات عسكرية. ومع ذلك يبدو جلياً أن الحصول على حدود دفاعية وعمق إستراتيجي في المرحلة التي أعقبت عام 1967 كبح نوعا ما النزعة الإسرائيلية لشن حرب وقائية أو إستباقية.

يبدو أن التوجه الإسرائيلي نحو النزاعات الصغرى لم يتغير بشكل ملحوظ نتيجة للتحولات الحدودية، كون الرد كوسيلة للتأثير على تصرفات العدو بقي أداة مركزية للتعامل مع الحروب الصغيرة في مرحلة ما بعد عام 1967. وبالنسبة لإنتشار تهديد الحرب النووية والبيولوجية والكيماوية على إسرائيل في الربع الأخير من القرن الماضي، يظهر أن العمق الإستراتيجي والحدود الدفاعية لم يكن لها تأثير ملموس على الأمن القومي للدولة.

إن أهم إنجاز تحقق من وراء كسب إسرائيل لحدود جديدة في مرحلة ما بعد حرب عام 1967 بالنسبة للأمن القومي لإسرائيل هو عزل البلاد وإبعادها عن خطر التقهقر الكارثي في حرب تقليدية شاملة. ففي حرب عام 1973، وفر العمق الإستراتيجي والدفاعي اللذان أتاحهما إحتلال سيناء ومرتفعات الجولان للجيش الإسرائيلي مجالا وحيزاً من الزمن كي يفيق من المباغتة والنكسة التي مني بها.

بيد أن السيطرة على سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية و مرتفعات الجولان خلقت مشاكل بحد ذاتها. إذ أن احتلال سيناء ومرتفعات الجولان وفر للدول العربية الأساس الذي تبنى عليه إتخاذ القرارات العربية بالمبادرة إلى شن حرب الإستنزاف ثم حرب أكتوبر 1973، فضلاً عن أن أعمال العنف الفلسطينية التي اندلعت أواخر الثمانينيات ولا زالت لغاية الآن، وكذلك حرب العصابات والإرهاب في منطقة الحزام الأمني في جنوب لبنان ما بين الأعوام 1995-2000 وضعت كلها مسألة الميزة الإستراتيجية التي نشأت عن السيطرة على أراضي يقطنها معادون موضع تساؤل.

على هذا الأساس تحركت النظرية الأمنية بخطى ثابتة باتجاه مبادلة الأراضي بمعاهدات سلمية رسمية (مصر والأردن) وتفاهمات غير رسمية (لبنان) يرافقها ضمانات أمنية مقبولة كالمراقبة الدولية والمناطق المنزوعة السلاح ومحطات الإنذار المبكر والتنسيق الأمني الثنائي..الخ. هذا التقلص المتزايد في الإهتمام والتركيز على السيطرة على أراضي كرصيد أمني قومي يعني أنه لو خاضت إسرائيل حرباً شاملة في المستقبل فمن غير المحتمل أن يكون بين أهداف هذه الحرب إحتلال أراضي، بل قد يركز الجيش الإسرائيلي على تحطيم الجيوش العربية وبنيتها العسكرية وربما على تدمير البنيات التحتية الإقتصادية والسياسية للدول العربية كوسيلة أكثر نجاعة لضمان الأمن القومي الإسرائيلي.

الطاقة البشرية:

كان تعداد الشعب اليهودي عام 1948 يتراوح ما بين 600 إلى 650 ألف نسمة في حين كان عدد سكان الدول العربية المجاورة يربو على عدة ملايين. هذا الخلل في التوازن الديمغرافي الذي لا تستطيع أية هجرة جماعية يهودية تعديله يعني أن باستطاعة العالم العربي المحافظة على وجود جيوش نظامية كبيرة الحجم. ولا يمكن لإسرائيل مضاهاة ذلك، وأية محاولة لبناء جيش كهذا سيقضي على قدرة الدولة على بناء إقتصاد سليم.

إستطاع المخططون العسكريون الإسرائيليون تذليل هذه العقبة الديمغرافية عن طريق تحويل الجيش إلى أشبه ما يكون بالمليشيات المسلحة إبان حرب الإستقلال. أما في وقت السلم (أي في ظل غياب حرب شاملة) فإن جيش الدفاع سيكون مؤلفا من عدد قليل من الجنود المحترفين يساندهم عدد أكبر من المجندين في الخدمة العسكرية الإلزامية على أن ينضم إلى هؤلاء المجندين والمحترفين عدد محدود من الإحتياط الذي يتعين على الجندي فيه قضاء عدة شهور في الخدمة العسكرية سنوياً كلٌ حسب الحالة الخاصة به. كل مواطن اسرائيلي، رجلاً كان أو إمرأة، هو بمثابة إحتياط بعد إنهاء خدمته العسكرية الإلزامية ما لم ينضم أو تنضم إلى الخدمة النظامية. الواقع هو أن الإسرائيليين كان يروق لهم في يوم من الأيام ترديد النكتة القائلة بأنهم أمة من الجنود تقضي إجازة مدتها 11 شهراً في العام. ويظل عدد الجنود في الجيش الإسرائيلي وقت السلم عند أدنى حد، كي لا يتشوش ويتعرقل التقدم الإقتصادي للبلاد.

للجيش الإسرائيلي وظيفتان رئيسيتان وقت السلم تتمثل الأولى في المسؤولية عن الأمن اليومي لإسرائيل وهذا يعني التعامل مع الحروب الصغيرة كالمناوشات الحدودية مع دولة عربية أو تنفيذ مهام ضد منظمة إرهابية أو قمع حشود جماهيرية. أما الثانية فتتمثل في الإعداد الجيد لحرب شاملة. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف ينبغي على الجيش التأكد من أن وحدات الإحتياط التي تشكل معظم القدرة القتالية للجيش الإسرائيلي يمكن تنظيمها في غاية السرعة والسلاسة ونشرها فوراً في ساحة المعركة. وبالتالي فإن الحفاظ على نظام تعبئة فعال هو أمر في غاية الأهمية من أجل تحقيق الهدف المرجو. ويستوجب الإستعداد للحرب  أيضاً العديد من المهام مثل تدريب المجندين والإحتياط وصيانة المعدات والحفاظ عليها في حالة صالحة للإستعمال وتطوير الخطط العملياتية والتكتيكية.

إن جيشاً إسرائيلياً شبيهاً بالميليشيا يخدم الأمن القومي الإسرائيلي جيداً. فهو لم يقم بتنفيذ مهمة عظيمة تتمثل في حماية الدولة ضد الحروب الصغيرة والشاملة فحسب بل نفذ هذه المهمة دون التسبب في تشويش الحياة الاقتصادية على المدى الطويل. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الحل الإسرائيلي لمشكلة الطاقة البشرية حمل في طياته أيضاً ثمناً سياسياً. فمن الناحية العسكرية، عهد الجيش الإسرائيلي ومر بتجربة دنا فيها من الكارثة في بداية حرب أكتوبر من عام 1973 لأن حجم قواته النظامية آنذاك كان صغيراً لدرجة لا تكفي لمعاجلة الضربة المفاجئة التي وجهتها مصر وسوريا.

أما من الناحية السياسية، فينبغي تسريح الجيش الإسرائيلي أو الزج به في الحرب خلال مدة قصيرة لأن الإقتصاد الإسرائيلي ببساطة لا يستطيع العيش في ظل تعبئة إلى أجل غير مسمى منتظراً أن تدور عجلات الدبلوماسية البطيئة. فحقيقة الأمر هي أن أورشليم لم تمتلك في يوم من الأيام رفاهية توفر الوقت أثناء الازمة.

ومع أن إسرائيل لازالت متمسكة جداً بجيش شبيه بالميليشيا، إلا أن هناك بوادر تغير في هذا الخصوص بدأت تلوح في الأفق منذ مطلع التسعينات. وطالما أعرب ضباط كبار عن آرائهم في أن يروا الجيش الإسرائيلي وقد أصبح منظمة أصغر حجماً وأكثر تنظيماً. بيد أن المعنى الدقيق لهذا الإصطلاح فيما يتعلق بمتطلبات الطاقة البشرية مستقبلاً مازال غير واضح، مع أنه يبرز الدلالة على الرغبة في الإعتماد أكثر فأكثر على الجنود المحترفين وأقل فأقل على المجندين الإلزاميين والإحتياط.

هناك سببان رئيسيان يكمنان وراء تفضيل جيش أكثر إحترافاً، الأول هو الزيادة الطبيعية في النمو السكاني والهجرة الجماعية، إذ تجاوز تعداد الشعب اليهودي الخمسة ملايين. يرى كثير من الضباط الإسرائيليون أن الدولة الآن لديها فائض في الطاقة البشرية العسكرية وهذا يشير إلى أن الجيش قد يكون قادراً مستقبلا على تنفيذ المهمة الملقاة على كاهله دون اللجوء إلى عملية تجنيد شاملة. الثاني هو أنه في الوقت الذي أصبحت فيه الحرب بشكل متزايد مسألة ترتكز على التكنولوجيا المتطورة، أصبح الجنود غير النظاميين من ناحية أخرى يجدون صعوبة أكثر فأكثر في تشغيل آخر ما توصل إليه العلم في مجال المعدات والأجهزة الخفيفة والثقيلة. ومع أن هناك فروعا في الجيش الإسرائيلي كسلاح الجو والبحرية والإستخبارات العسكرية تحتفظ بضباط إحتياط مميزين، إلا أنها كانت تعتمد منذ وقت طويل على الجنود المحترفين بسبب الطبيعة المعقدة جداً للمعدات العسكرية الثقيلة والخفيفة التي يحارب بها. أيضاً أصبحت وحدات العمليات الخاصة في الجيش أكثر إحترافاً من أي وقت مضى، عاكسة بذلك الدور السياسي الملح والحساس الذي تلعبه الآن في العسكرية الإسرائيلية. أن الأمر المؤكد مع ذلك، هو أن الجيش الإسرائيلي سيحتفظ وسيعتمد بشكل كبير على كادر ضخم من الإحتياط في المستقبل المنظور في حالة ما تأكد الجيش أن هناك احتمالاً لاندلاع حرب شاملة. بيد أن إستمرار إنتشار التكنولوجيا الفائقة بما في ذلك الأنظمة الإلكترونية المتطورة والأسلحة دقيقة التوجيه في الحروب، سيعمل على تقليص حجم الإحتياط في وقت بات فيه التجنيد أكثر انتقاءً، وفي وقت يتزايد فيه عدد الجنود المحترفين.

الكم ضد الكيف:

لقد تميز الصراع العربي-الإسرائيلي بعدم التوازن في الموارد العسكرية لاسيما في مجال الحرب التقليدية. كانت إسرائيل ولا تزال تمتلك عدداً أقل مما تمتلكه الدول العربية من حيث الجنود والعتاد. وللتعويض عن هذا النقص في الكم، دأب الجيش الإسرائيلي على البحث عن التفوق النوعي في العدة والعتاد وأصبحت الطاقة البشرية في الجيش الإسرائيلي أكثر ملاءمة وأكثر ثقافة دفاعية من نظيراتها العربية. فقد سعى المخططون العسكريون الإسرائيليون الذين إعترفوا بهذه الحقيقة إلى تثقيف وتدعيم الرصيد البشري في الجيش وقد إستفاد من هذا التفوق في نواحي عدة. أولاً، لقد عُرف الجيش الإسرائيلي بتدريباته الصارمة والقاسية لاسيما فيما يتعلق بالوحدات القتالية. على سبيل المثال فإن القسوة التي يلاقيها الطيار الإسرائيلي خلال تدريبه في سلاح الجو لا تضاهيها أي قسوة في أي سلاح  جو آخر في العالم، ليس في الدول العربية فحسب. ثانياً يركز الجيش الإسرائيلي تركيزا شديداً ويولي عناية كبيرة في إختيار وتدريب ضباط الوحدات القتالية علماً بأن الدقة الشديدة في عملية الإختيار وتدريب الضباط ليس لها مثيل في أي جيش في العالم. ثالثاً، لقد تبنى الجيش الإسرائيلي منذ تأسيسه ولغاية الآن نمطاً حربياً على المستويين العملياتي والتكتيكي، بهدف تعظيم قدرته البشرية.

وبالنسبة للتفوق التسليحي فهذه ظاهرة أكثر حداثة حيث أن الأسلحة المتطورة للغاية التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي الآن طغت على حقيقة أن السلاح الإسرائيلي قبل حرب عام 1967 لم يكن متفوقاً على السلاح الذي كان بحوزة العرب آنذاك. وبينما كان العرب يتلقون آخر ما توصلت إليه الصناعات العسكرية السوفيتية، لم يكن أمام إسرائيل سوى الإعتماد على الأسلحة الغربية من الطراز الثاني ولم تكن الترسانة العسكرية الإسرائيلية تضاهي مثيلاتها في الدول العربية، الا في مجال سلاح الجو والمدرعات والإستخبارات. لقد حقق الجيش الإسرائيلي التفوق التكنولوجي بعد حرب عام 1967 عندما بدأت الولايات المتحدة في تزويد سلاح الجو الإسرائيلي بطائرات قتالية متقدمة. كما لوحظ التفوق التكنولوجي الإسرائيلي في المجال البحري بعد عام 1967 عندما أدخل سلاح البحرية إلى الخدمة زوارق الصواريخ السريعة المجهزة بالصواريخ المتطورة المضادة للسفن. أما في مجال الحرب البرية فلم يتحقق التفوق التكنولوجي الإسرائيلي إلا بعيد حرب عام 1973 بعد تقدم الإنتاج المحلي الضخم للأسلحة.

لقد لوحظت المساعي والجهود الإسرائيلية للحفاظ على تفوقها النوعي في ساحات المعارك، وعلى الرغم من أن إسرائيل عانت من بعض التراجع على صعيد الحربين الشاملة والصغيرة، إلا أنه لم يحدث أن مني الجيش الإسرائيلي بالهزيمة على يد القوة العسكرية العربية، بل كان المنتصر بلا منازع في حرب شاملة عدا حرب الإستنزاف التي آلت إلى طريق مسدود على طول قناة السويس وقد أبلى الجيش الإسرائيلي بلاءً حسناً في الدفاع عن البلاد خلال الحروب الصغيرة مع أنه لم يستطع على الإطلاق توجيه ضربة قاضية للمنظمات الإرهابية العربية.

ظل الجيش الإسرائيلي اليوم ملتزماً ومتمسكاً بمفهوم التفوق النوعي في العدة والعتاد. وبالرغم مما يشاع عن أن مستوى أداء جنوده تدنى في العقود القليلة الماضية، إلا أن الطاقة البشرية في الجيش الإسرائيلي هي في غاية الإستعداد الجيد كما كانت عليه في الماضي. فمن الناحية التكنولوجية، يعتقد أن الجيش الإسرائيلي متمسك الآن أكثر من أي وقت مضى بفكرة التفوق النوعي على الجيوش العربية، وهذا التركيز على النوع ينبغي أن لا يحجب حقيقة أن موقف الجيش الإسرائيلي من الكم تغير بعد حرب 1973. إذ أن تجربته المريرة في هذه الحرب ولاسيما في بدايتها عندما مني بخسائر جسيمة في العدة والعتاد أوصلته إلى قناعة بأن للكم ميزة بحد ذاته. في الربع الأخير من القرن الماضي زاد حجم الجيش الإسرائيلي بشكل ملحوظ لدرجة أن ترسانته الحالية تحتوي على أكثر من 800 طائرة مقاتلة و 2000 قطعة مدفعية و 4000 دبابة، الأمر الذي يضعها في مصاف كبرى الترسانات في العالم في وقت ينبغي أن يؤدي استمرار التمسك بالحفاظ على جيش أصغر حجماً وأكثر تنظيماً، إلى تقليص كمية السلاح مع مرور الزمن.

حرب المناورة الهجومية:

يبدو من قبيل التناقض أن لا تسعى دولة كإسرائيل أبداً لتوسيع أراضيها على حساب جيرانها العرب بقصد متعمد، وأن تظل متمسكة بحرب المناورة الهجومية. بيد أن تبنى الجيش الإسرائيلي لهذا النمط من الحرب على الصعيدين التكتيكي والعملياتي هو أمر معقول جداً، واذا أُريد معرفة السبب ينبغي الإدراك بأن الإعتبارات الإقليمية والإقتصادية والبشرية والسياسية الكمية في مواجهة الإعتبارات النوعية كلها إمتزجت مع بعضها البعض لتدعيم مثل هذا النمط من الحرب.

لم تعمد إسرائيل إلى خوض حروبها على الأراضي العربية للأسباب الآنفة الذكر فحسب، بل سعت أيضاً لخوض غمار حروب صغيرة. ومن هنا فإن تفضيل إسرائيل لخوض حروب قصيرة مثلما تفضل الحرب فوق أراضي عربية هو أمر ليس من الصعب فهمه جيداً. غني عن القول أن الحروب قصيرة الأمد لا تسبب تشويشاً إقتصادياً كبيراً كالتشويش الذي تحدثه الحروب الشاملة. وبما أن الإقتصاد الإسرائيلي حساس جداً بشكل خاص لتأثير الحروب، فقد كان لأورشليم حافز قوي لإنهاء فترة الحرب بأسرع وقت ممكن. علاوة على ذلك، فإن الماضي المأساوي للشعب اليهودي وصغر حجمه يولدان حافزاً قوياً جداً أيضاً لإنهاء الحروب بأقصى سرعة ممكنة لتفادي أقل قدر من الخسائر البشرية. كما أدركت أورشليم أن إنهاء الحرب بسرعة يقلل من إحتمال التدخل العسكري والسياسي الأجنبي لصالح العرب.

لم توفر المناورة الهجومية حلاً خلاقاً لمشاكل إسرائيل الإقليمية والإقتصادية والبشرية والسياسية فحسب بل أيضاً لعبت دوراً هاماً في دعم القوة العسكرية للجيش الإسرائيلي في مواجهة الجيوش العربية، فضلاً عن أن هذا النمط من الحرب يساعد ويدعم مبدأ النوعية. ترتكز المناورة الهجومية على سرعة الحركة وهذه ميزة لابد أن يتمتع بها المقاتل المدرب جيداً وذو القيادة والدفاعية الجيدة أيضاً. وبالتالي فإن تأثير العدد على نتيجة هذا النمط من الحرب يقل بكثير عن تأثيره على نتيجة حرب الإستنزاف.

لقد عززت تجارب وخبرة الجيش الإسرائيلي القتالية باستمرار من تمسكه بالمناورة الهجومية. ففي المراحل الأخيرة من حرب الإستقلال إستطاع الجيش الإسرائيلي إلحاق هزيمة منكرة بالجيش المصري من خلال سحقه وطرده من النقب في حملة مناورة هجومية. لذلك عمد الجيش الإسرائيلي في السنوات الأولى من تأسيسه إلى بناء وحدات مشاة مؤألله على غرار تلك الوحدات التي سحقت الجيش المصري. وفي حملة سيناء عام 1956 والتي هزمت فيها القوات الإسرائيلية أيضاً القوات المصرية شر هزيمة، محتلة بذلك معظم مساحة سيناء، لعب سلاح الجو والمدرعات دوراً مؤثراً جداً في هذه الحملة. وهكذا أصبح مفهوم المناورة الهجومية في الجيش الإسرائيلي بعد الحرب مرادفا لتألق وسيطرة سلاحي الجو والمدرعات.

عززت الانتصارات الساحقة التي حققها سلاحي الجو والمدرعات إبان حرب عام 1967 بشكل كبير من هذه النظرية، وذلك على المستويين التكتيكي والعملياتي. كما أن حصول إسرائيل على حدود يمكن الدفاع عنها وعلى عمق إستراتيجي بفضل هذه الحرب لم يكن له تأثير كبير على الإنتقاص من عزيمة إسرائيل على التركيز على المناورة الهجومية، كما أن الخسائر التي مني بها سلاحا الجو والمدرعات في الأيام الأولى من حرب أكتوبر 1973، على يد المضادات الأرضية والأسلحة العربية المضادة للدبابات لم تقوض من الإيمان القوي بهذا النمط من الحرب.

لازال الجيش الإسرائيلي لغاية اليوم يدافع دفاعاً شديداً عن حرب المناورة الهجومية ومع ذلك فقط عدل نوعا ما من الأنماط التكتيكية والعملياتية بعد حرب عام 1973. ومن أبرز تلك التعديلات هو التحول نحو مزيج متناسق من القوات بحيث يوفر لأسلحة المدفعية والمشاة والهندسة التي كانت مهمشة في السابق، دوراً أكثر وضوحاً في التصميم التكتيكي والعملياتي للجيش الإسرائيلي. هناك جانب آخر من هذه التغيرات يشمل إعتماداً أكبر على القوة النارية لتحقيق الأهداف العسكرية. وقد ظهرت بوادر هذا التركيز على القوة النارية إبان حرب لبنان عام 1982. بيد أنه في التسعينات فقط بدأ الجيش الإسرائيلي يقر بوضوح أن التحركية لم تعد تمثل وحدها حلاً خلاقاً لما يجري في ساحة المعارك الحديثة في الشرق الأوسط.

وعلى ضوء الطبيعة المشبعة لساحة المعارك هذه التي يتقلص فيها مجال المناورة إلى حد بعيد بفعل الأعداد الهائلة من الأسلحة الموجودة في ترسانة دول الشرق الأوسط، فإن الحرب القادمة إذا ما اندلعت، ستشهد تخلي الجيش الإسرائيلي مؤقتاً عن حرب المناورة الهجومية إلى أن يتم تنفيذ حملة تمهيدية من القصف بحيث يكون قصيراً وكثيفاً يستخدم فيها صواريخ طويلة المدى موجهة بالليزر تطلق من الجو والبر والبحر ضد أهداف عسكرية وسياسية وصناعية عربية. وبغض النظر عن الطرف الذي يبادر إلى الحرب، فإن الجيش الإسرائيلي قد يسعى إلى إضعاف خصمه إلى حد يمكن عنده تنفيذ حملة المناورة الهجومية بأقل الخسائر.

الردع:

تسعى إسرائيل جاهدة، كسائر الدول الأخرى، للدفاع عن مصالح أمنها القومي بالوسائل السلمية. لقد سعت، بمعنى آخر، إلى ردع خصومها العرب وليس محاربتهم. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف إستخدمت نوعين من الردع وهما الردع العام والردع الخاص المحدود. أضف إلى ذلك أن إسرائيل مارست الردع في مجال الحرب التقليدية وغير التقليدية.

لقد ركز الردع الإسرائيلي من الناحية التاريخية على الحيلولة دون إندلاع حرب واسعة النطاق. ولذلك فقد تمحور الردع العام الإسرائيلي حول مفهوم إظهار إمتلاك القوة الفائقة. ظلت إسرائيل تردد عبارة أن بإمكان العرب إختيار وقت الحرب بينما نحن الذين نقرر مجالها ونطاقها، وقد أريد بذلك توصيل رسالة إلى الدول العربية بأن لا تبادر إلى الحرب لأن إسرائيل ستلحق بهم هزيمة يفوق ثمن الذهاب إلى الحرب، ثمن أية فوائد قد تجنيها من ورائها. من ناحية أخرى تركزت فكرة الردع الإسرائيلي حول آلية وضع الخطوط الحمراء الواضحة التي إذا تم اجتيازها فإن ذلك سيولد رداً عسكرياً صارماً. وتطرح أورشليم مثالاً على ذلك، وهو أن تحرك أي جيش أجنبي إلى الأردن سيكون سبباً للحرب لدرجة أن معاهدة السلام الإسرائيلية-الأردنية الموقعة في عام 1994 تتضمن بنداً ينص على ذلك. ولقد أوضحت إسرائيل أيضاً أن أي إغلاق لأحد ممراتها البحرية سيكون سبباً لاندلاع الحرب. والواقع هو أن الإنتهاكات العربية عام 1967 لهذه الخطوط الحمراء يفسر جزئيا قرار إسرائيل بشن الحرب الإستباقية. يكاد يكون وضع الردع الإسرائيلي بالنسبة للحروب الصغيرة والحروب التي تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل أقل وضوحاً.

ولعل مفهوم "الرد الشامل" هو الذي يهيمن على حالة الردع الإسرائيلي في مجال الحرب غير التقليدية. ومن أجل ردع أية حرب صغيرة، ظلت أورشليم تتوعد دائماً بالرد بشكل لا يتناسب مع أي عمل تقوم به المنظمات الإرهابية. ومن أجل الردع عن إستخدام أسلحة الدمار الشامل، توعدت إسرائيل بشكل واضح بإستخدام نفس الأسلوب ضد أي دولة تسول لها نفسها إستخدام هذا  النوع من السلاح ضد إسرائيل. ولإضفاء مزيد من المصداقية على هذا التهديد، سعت إسرائيل بهدوء ولكن بشكل أكيد، إلى جعل قدرتها على خوض حرب نووية أكثر "شفافية".

يبدو للوهلة الأولى أن تاريخ إسرائيل المفعم بالعنف يشير بوضوح إلى أن حالة الردع الإسرائيلي لم يكن لها تأثير على خصومها العرب. هناك مثال يدعم هذا الإعتقاد حيث فشل الردع الإسرائيلي قبل عام 1967 وفي الفترة الواقعة ما بين عام 1969 وعام 1970 وقبل أعوام 1973 و 1982 و1991، علماً بأن الردع الإسرائيلي في حالة الحروب الصغيرة الذي يتضمن تنفيذ تهديدات سابقة بالرد الشامل لم يوفر علاجاً طويل الأمد لهذا المرض المزمن. ومع ذلك فقط يبدو من قبيل المبالغة الإدعاء بأن الردع الإسرائيلي ما هو إلا سراب. توجد  إمكانية للتمييز بين الوقت الذي يفشل فيه الردع والوقت الذي ينجح فيه. فقد يسهل إذن تشخيص حالة الردع الإسرائيلي على أنها فشل ذريع. ولكن عندما يؤخذ بعين الإعتبار حقيقة أن أياً من الدول العربية أو المنظمات الإرهابية لم تبدِ ندماً حيال استخدام أقصى درجة من العنف في سبيل تحقيق هدف إبادة دولة إسرائيل، يتبين أن سجل الردع الإسرائيلي أكثر فاعلية، فالعراق على سبيل المثال، مع أنه لم يرتدع عن إطلاق الصواريخ البالستية على إسرائيل إبان حرب الخليج، فهو لم يحاول أبداً تسليح هذه الصواريخ برؤوس بيولوجية أو كيماوية مع وجود القدرة لديه على ذلك، ولعل تهديد إسرائيل باستخدام الأسلحة النووية هو الذي ردع العراق عن إستخدام أسلحة الدمار الشامل. وبغض النظر عن الحكم بفشل أو بنجاح سجلها، فمن غير المتوقع أن يطرأ أي تغيير ملموس على حالة الردع الإسرائيلي على الأقل في المستقبل القريب.

التهديدات التقليدية وغير التقليدية:

لقد أبتليت إسرائيل بخطر إندلاع الحروب الصغيرة والحروب واسعة النطاق على مر تاريخها، كما واجهت أيضاً خطر أسلحة الدمار الشامل معظم عمرها. ومع ذلك فإن تأثير هذه التهديدات على نظرية الأمن القومي الإسرائيلي تغير بشكل واضح مع مرور الزمن. وخير دليل على ذلك هو التباين الواضح بين ما كان يجري في مرحلة ما قبل وما بعد حرب أكتوبر. ففي مرحلة ما قبل عام 1973، كانت النظرية الأمنية الإسرائيلية تركز تركيزاً كبيراً على خطر نشوب حرب واسعة النطاق. وقد إعترف المخططون العسكريون الإسرائيليون بأن المناوشات الحدودية مع الدول العربية والإرهاب الفلسطيني يمثلان تهديدا مزمناً يتوجب على الجيش الإسرائيلي الإعداد له جيداً. أخذت إسرائيل خطر أسلحة الدمار الشامل مأخذ الجد لدرجة أنها كانت تنظر في الستينيات في إمكانية توجيه ضربة للجهود المصرية لاقتناء أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيماوية. لكن هؤلاء المخططين لم يروا في هذه التهديدات خطراً حقيقيا على وجود الدولة وذلك على العكس مما هو عليه الحال بالنسبة لتهديد الحرب التقليدية، وإذا ما أُخذ بالحسبان حجم المخصصات الدفاعية للدولة في مرحلة ما قبل عام 1973، فذلك يشير إلى أن المخططين العسكريين إعتبروا الحرب الشاملة أعظم خطر يواجه إسرائيل في تلك المرحلة. والواقع أن نسبة ضئيلة من هذه المخصصات إستثمرت في الحدود الخارجية على شكل نقاط مراقبة ودوريات لحرس الحدود ووحدات لمكافحة الإرهاب وإقامة حقول الغام. والواقع أيضاً، أن نسبة ضئيلة من الركائز والمقومات الدفاعية خصصت لتطوير الأسلحة النووية (سلاح الخيار الأخير) وكذلك لتجهيز الجيش الإسرائيلي بمعدات الوقاية من الأسلحة الكيماوية. بيد أن أغلب المصادر خصصت لخوض حرب تقليدية، بمعنى آخر، لشراء الطائرات الحربية والدبابات والعربات المدرعة والمدفعية…الخ.

أما في مرحلة ما بعد حرب عام 1973، فقد إستمر المخططون العسكريون الإسرائيليون في إعتبار الحرب التقليدية تهديداً رئيساً على وجود الدولة. وخير شاهد على ذلك أن الجيش الإسرائيلي يملك الآن ما يزيد على 12 لواءً مدرعاً و 4 الوية مؤألله. ومع ذلك فقد تبين أن خطر الحروب الصغيرة وأسلحة الدمار الشامل على وجود الدولة هو أعظم من أي وقت مضى. نشأ الوضع السابق مع إندلاع الإنتفاضة 1987-1993، وظهور حزب الله في التسعينيات، أما الوضع الأخير فقد نجم عن إنتشار الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل في مختلف أنحاء الشرق الأوسط لا سيما في العقدين الماضيين.

إنعكس بروز تهديد الحرب غير التقليدية على تخصيص الموارد العسكرية الإسرائيلية منذ حرب أكتوبر 1973. وبينما لازالت الدولة ماضية قدماً في توظيف معظم مصادرها في الإعداد للحرب التقليدية، فإن هناك مصادر كثيرة إستنزفها الإعداد للحرب غير التقليدية خصوصاً منذ الثمانينيات فصاعداً. ومع إندلاع الإنتفاضة أواخر الثمانينيات، انشأ الجيش الإسرائيلي وحدات للعمليات الخاصة التي كرست جل مهامها للتعامل مع الحروب الصغيرة، فقد شكلت وحدتا سييرت شمشون وسييرت دوبدوبان على سبيل المثال لهدف واحد هو تصفية قادة المنظمات الإرهابية. وقد لوحظ عمل وحدات المستعربين في الإنتفاضة الأخيرة. وعلى نفس النمط، شكل الجيش الإسرائيلي وحدة أغوز رسمياً لخوض معارك كوماندوز ضد حزب الله.

المثير في الأمر هو طبيعة الرد الإسرائيلي على تهديدات أسلحة الدمار الشامل، ولردع أي دولة عربية عن إستخدام مثل هذه الأسلحة. سعت إسرائيل على ما يبدو إلى اقتناء ترسانة ضخمة ومتنوعة من الأسلحة النووية التي تضم قنابل تسقط من الجو ورؤوساً حربية تطلق بواسطة صواريخ بالستية وكذلك صواريخ كروز من غواصات تحت الماء، بمعنى آخر، تملك إسرائيل ما يؤمن لها القدرة على "الضربة الثانية"، أما بالنسبة للاجراءات الدفاعية الفعالة فقد طورت إسرائيل أسلحة طويلة المدى وأنظمة لجمع المعلومات الإستخبارية مما يؤهلها للتصدي لأي سلاح من أسلحة الدمار الشامل.

يقال أن الجيش الإسرائيلي يعكف منذ نهاية التسعينات على بناء "قيادة إستراتيجية" تتألف من سلاح الإستخبارات وسلاح الجو ووحدات المهام الخاصة بحيث تكون قادرة على تنفيذ مهام بعيدة جداً عن الحدود الإسرائيلية للدفاع عن أمن الدولة ضد خطر أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك لم يغفل الجيش بعد حرب الخليج عن تشكيل جبهة قيادة داخلية لتمكين الشعب الإسرائيلي من حماية نفسه ضد خطر أسلحة الدمار الشامل. وباختصار فإن ظهور خطر التهديدات غير التقليدية جعل الجيش الإسرائيلي يختلف جداً عن الجيش الذي ظهر بعد حرب أكتوبر عام 1973.

الإعتماد على النفس:

حرص اليهود في مرحلة ما قبل إنشاء الدولة حرصاً شديداً على الإعتماد على أنفسهم فيما يتعلق بالقضايا الأمنية، وذلك لهدفين، الأول: وهو دحض الأسطورة المناهضة للسامية القائلة بأن اليهودي إنسان هزيل وضعيف، والثاني: للوفاء بمتطلبات الدفاع عن السكان اليهود ضد أعدائهم العرب. استعد اليهود للدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم وقد تجلى ذلك في الجهود الصهيونية منذ البداية لترث إسرائيل هذا المبدأ فيما بعد. يمكن تقسيم مفهوم الإعتماد على النفس إلى ثلاثة أجزاء منفصلة: الإعتماد على النفس فيما يتعلق بالطاقة البشرية، الإعتماد على النفس في التدريب والنظرية، والإعتماد على النفس في السلاح. إسرائيل لم تستخدم الطاقة البشرية الأجنبية إلا في ثلاث مناسبات فقط، وفي مناسبة واحدة فقط من هذه المناسبات الثلاث أثبتت الطاقة البشرية العسكرية الأجنبية أهميتها في تحسين فرص إسرائيل في الحرب.

الأولى كانت إبان حرب الإستقلال عندما خدم المتطوعون اليهود وغير اليهود جنباً إلى جنب في الجيش الإسرائيلي الناشئ. كان عدد المتطوعين الأجانب لا يتناسب مع عدد الجنود الذين يتطلب منهم إبداء مهارات فنية خاصة كما هو جاري في سلاح الجو والبحرية. أما المناسبة الثانية فقد حدثت إبان حملة سيناء عندما طلبت أورشليم من فرنسا بأن ترابط مقاتلات فرنسية إعتراضية في قواعد سلاح الجو الإسرائيلي للحيلولة دون تمكين المقاتلات المصرية من الوصول إلى المدن الاسرائيلية، بينما حدثت المناسبة الثالثة إبان حرب الخليج عندما طلبت إسرائيل إرسال بطاريات صواريخ مضادة للصواريخ من طراز باتريوت يقوم بتشغيلها طاقم هولندي لإسقاط الصواريخ العراقية التي تستهدف المدن الإسرائيلية. بالنسبة للمقاتلات الفرنسية فقد ثبت أنه لم يكن لها أي ضرورة لأنه لم يحدث أن تمكنت أي من المقاتلات المصرية من إختراق الأجواء  الإسرائيلية في حين لم يكن لبطاريات صواريخ باتريوت سوى الطمأنة النفسية للجمهور الإسرائيلي. باختصار لقد حققت إسرائيل أعظم مستوى من الدفاع عن النفس.

نفس الشيء يمكن أن يقال عن التدريب والنظرية. لقد درس عدد قليل من ضباط الجيش الإسرائيلي في أكاديميات عسكرية غربية، كما تدرب عدد قليل أيضاً من الجنود الإسرائيليين على أيدي ضباط في الجيوش الغربية للتعلم على كيفية تشغيل الأسلحة الحديثة. ومع ذلك يتباهى الجيش الإسرائيلي بأنه لم يبحث إطلاقاً عن التوجيه والإرشاد الأجنبي من حيث التدريب والنظرية على خلاف ما جرى في دول ما بعد الحرب العالمية الثانية. فكل شيء عن إدارة الحروب الصغيرة وكل شيء عن إدارة الحروب واسعة النطاق على المستويين العملياتي والتكتيكي وكل شيء عن أسلحة الدمار الشامل، تعلمه الجيش الإسرائيلي بنفسه بفضل التجارب والأخطاء.

يعتبر الإعتماد على النفس فيما يتعلق بالتسلح أشد تعقيداً، ومع ذلك إحتفظت إسرائيل بصناعات عسكرية خاصة بها. كان اليهود قبل قيام الدولة يصنعون أسلحة صغيرة قصيرة المدى وغيرها من المعدات العسكرية. ومع مرور الزمن تطورت صناعة السلاح هذه إلى حد وصلت عنده اليوم لتكون في مصاف الدول المصنعة لأشد الأسلحة تعقيداً، رغم أنها لا زالت تعتمد إعتماداً كبيراً على الأسلحة الأجنبية وخاصة الأمريكية للحفاظ على أمنها القومي.

تعرضت إسرائيل في تاريخها لحظرين على تصدير السلاح إليها أضرا جداً بها. الأول إبان حرب الاستقلال عندما فرضت بريطانيا والولايات المتحدة حظراً على تدفق السلاح إليها، والثاني عشية حرب عام 1967 عندما أوقفت فرنسا، أكبر مصدر للأسلحة آنذاك لإسرائيل، تسليم السلاح لأورشليم لإرغام إسرائيل على الإمتناع عن القيام بعمل عسكري، علماً بأن هذين الحظرين عززا من الناحية النفسية عزم وإصرار إسرائيل على المضي قدماً في السعي إلى تحقيق الإعتماد على النفس.

على الرغم من أن صناعة السلاح الإسرائيلية ظلت صغيرة في حجمها في الفترة الواقعة ما بين الأعوام 1949 إلى 1967، إلا أنها سجلت إنجازات يعتز بها وأبرزها صناعة قنبلتين نوويتين قبل حرب عام 1967. أما بعد تلك الحرب فقد خطت صناعة السلاح الإسرائيلية خطى سريعة لتشمل صناعة الطائرات والسفن الحربية وكذلك المدفعية والصواريخ والإلكترونيات، بيد أن التطور الهائل في الحجم والتعقيد في صناعة السلاح العسكرية لم يتم إلا بعد حرب عام 1973.

تمكنت صناعة السلاح الإسرائيلية في العقود الثلاثة التي تلت تلك الحرب من تصميم وتصنيع أنواعاً كثيرة من السلاح تعجز عن ذلك أي دوله بهذا الحجم. ففي مجال أنظمة الفضاء أنتجت الصناعات الإسرائيلية أقماراً صناعية إستكشافية وصواريخ لإطلاقها، كما انتجت صواريخ بالستية طويلة المدى (سلسلة صواريخ أريحو) وصواريخ كروز طويلة المدى القادرة على حمل رؤوس حربية نووية. إستطاعت الصناعات العسكرية الإسرائيلية تطوير أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ البالستية (صواريخ أرو) فضلاً عن أن الصناعات العسكرية الإسرائيلية أنتجت جميع أنواع الأنظمة الإستخبارية وأجهزة الرؤية الليلية.

تعتبر الصناعات العسكرية رائدة دول العالم في مجال طائرات التجسس بدون طيار وهي تصنع نوعين من هذه الطائرات، نوعاً لجمع المعلومات الإستخبارية من طراز حيرون وهيرسل وسيرتشر م.ك11، ونوعاً هجومياً مثل موب وهيربي. وقد تعتبر هذه الصناعات الأنجح في العالم من حيث تطوير أساليب التحديث بغية تحسين وزيادة عمر أنظمة التسلح القديمة. واخيراً أنتجت الصناعات العسكرية الإسرائيلية جيلاً كاملاً من أنظمة التسلح البرية كالدبابات من طراز مركفاه والعربات القتالية المدرعة من طراز أتشازيت وأنظمة المدفعية كالمدافع الرشاشة والصواريخ والمورتر والأسلحة الخفيفة والذخيرة بشتى أنواعها.

تمتلك إسرائيل مصادر تصميم وتصنيع جميع هذه الأسلحة بفضل قرارها الحكيم الذي إتخذته في الثمانينات بالإعتماد على دول أخرى وخاصة الولايات المتحدة في مجال الطائرات والسفن الحربية. والذي عزز من هذا القرار قضية إنتاج طائرة "لافي" في منتصف الثمانينات عندما لم تستطع إسرائيل في نهاية الأمر تمويل هذه الطائرة ذات التصميم المحلي، وبالتالي ظلت الإستراتيجية الصناعية القائمة على تفادي إنتاج الوسائل الحربية الجوية والبحرية ركناً من أركان سياسة الإعتماد على الأسلحة الاجنبية. ومع أن إسرائيل في القرن الحادي والعشرين تمتلك القدرة التكنولوجية والبنية الصناعية والموارد اللازمة لإنتاج الطائرات والسفن الحربية، إلا أنها لم تبدِ أي ميول نحو ذلك. ويبدو أنها كيفت نفسها على المفهوم القائل بأنه حتى لو قامت إسرائيل بتصميم وإنتاج الطائرات والسفن الحربية فهي لن تكون قادرة على إنتاج ذلك العدد الذي يمكنها من التحرر كلياً من الإعتماد على المصادر الأجنبية.

دعم القوة العظمى:

إدراكاً منه أن إسرائيل لن تكون قادرة تماماً على الإكتفاء الذاتي، وضع "ديفيد بن غوريون" أول رئيس وزراء لإسرائيل الأساس والمبدأ الذي قامت عليه النظرية الأمنية الاسرائيلية وهو أن تحصل إسرائيل بشكل دائم على دعم قوة عظمى واحدة على الأقل. إذ أن دولة صغيرة الحجم كإسرائيل تمتلك مصادر محدودة جداً، لا تريد أن تجد نفسها معزولة عن المجتمع الدولي في حالة الحرب. ورأى بن غوريون أن حماية المصالح الأمنية القومية لإسرائيل تستلزم الدعم العسكري والسياسي والإقتصادي من قوة عظمى كالولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس إستوعبت إسرائيل هذا القول المأثور جداً. ففي كل حرب من الحروب الثلاثة التي أطلقت فيها إسرائيل الطلقة الأولى، حملة سيناء وحرب عام 1967، وحرب لبنان، حظيت إسرائيل بالدعم الضمني والصريح لهذه القوة العظمى المناصرة. في عام 1956 إنضمت فرنسا لمناصر إسرائيل في ذلك الوقت للحرب إلى جانبها عندما هاجمت بريطانيا مصر. وفي عام 1967 و1982 ضمنت إسرائيل موافقة الولايات المتحدة المبدئية على خططها العسكرية، والواقع أن دعم القوة العظمى كان في غاية الأهمية لدرجة أن الخطط العسكرية الإسرائيلية لحروب عام 1969-1970 و1973 كانت جزءاً من مصالح السياسة الخارجية الأمريكية. كان إستخدام إسرائيل للقوة في حالة الحرب أمراً حساساً جداً بالنسبة لرغبات الدول الصديقة التي تدعمها. وبناء على ذلك فقد حظيت إسرائيل بمساعدة قوة عظمى لها في كل حرب خاضتها ضد جيرانها العرب ما عدا حرب الإستقلال. وانسجاماً مع مبدأه حول دعم القوة  العظمى في حالة الحرب، نصح بن غوريون بأن لا تتورط إسرائيل في مواجهة مع قوة عظمى في ساحة المعركة، وعليه فقد عملت إسرائيل بوصيته ولم تخرج عن ذلك الا في مناسبات بارزة. ففي حرب الإستقلال إشتبك الجيش الإسرائيلي مع القوات البريطانية ولاسيما في نهاية الحرب عندما أسقطت خمس طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني بواسطة المضادات الأرضية الإسرائيلية فضلاً عن أن الجيش الإسرائيلي واجه في جميع حروبه مع العرب بدءاً بحرب 1967 وانتهاءً بحرب 1982 قوات عسكرية سوفيتية علماً بأن أشهر مواجهه عسكرية إسرائيلية-سوفيتية وقعت بلا شك في أواخر حرب الإستنزاف عندما أسقطت مقاتلات سلاح الجو خمس مقاتلات سوفيتية في معركة جوية قصيرة. ومع ذلك لم يكن لهذه الحالات العرضية أية عواقب إستراتيجية طويلة الأمد.

من غير المحتمل أن يتغير مستقبلاً موقف إسرائيل حيال دعم القوة العظمى، وستظل ماضية قدما في تعزيز العلاقات المتينة القائمة بينها وبين واشنطن لأن ذلك يدعم المصالح الأمنية القومية لإسرائيل، كذلك فإن موقف إسرائيل بالنسبة لأية مواجهة عسكرية مع دولة عظمى لن يتغير وستظل جاهدة لتفادي أية مواجهة من هذا القبيل شرط عدم تعرض لب المصالح الأمنية الإسرائيلية للخطر.

الإستمرارية والتغيير:

تميزت النظرية الأمنية الإسرائيلية بالإستمرار والتغيير منذ نشأة الدولة. فمن ناحية، إلتزمت إسرائيل بشكل ثابت بمفاهيم مختلفة كالردع عن طريق التلويح بالرد الشامل وبشن حروب قصيرة على أراضي عربية وبالتفوق النوعي في العدة والعتاد وبممارسة أعظم قدر من الإعتماد على النفس وتأمين دعم قوة عظمى لها. ومن ناحية أخرى تعرضت النظرية الأمنية لتغير ثوري على مر العقود. ومع أنها كانت دائماً تعبر عن رغبتها في مقايضة الأرض بالسلام، إلا أن السيطرة على الأراضي أصبحت رصيداً أمنياً بدأت قيمته تقل في العقود الأخيرة خاصة وأن خطى إندلاع حرب باستخدام أسلحة الدمار الشامل بدأ يتسارع. ولهذا السبب أخذت إسرائيل تبحث أكثر من أي وقت مضى عن العمق الإستراتيجي والحدود الدفاعية بواسطة المعاهدات السلمية التي تتضمن ضمانات حازمة وليس عن طريق إحتلال الأراضي.

على الرغم من أن الجيش الاسرائيلي لازال قائماً على مبدأ الحرب الهجومية، إلا أنه جهز نفسه وأعدها لخوض أنماط قتالية بديلة في وقت يجري فيه إقتناء الأنظمة الإلكترونية المعقدة للغاية والأسلحة والذخيرة ذات الدقة في التوجيه على قدمٍ وساق. الأهم من ذلك أن خطر إندلاع حرب تقليدية واسعة النطاق آخذ في التراجع، الأمر الذي يزيد من التركيز على مصادر التصدي للتهديدات التي تشكلها الحروب الصغيرة وأسلحة الدمار الشامل.

لعل إسرائيل قد دخلت في القرن الحادي والعشرين مرحلة "ما بعد البطولة" في وجودها. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن نظريتها الأمنية التي تكافح جداً وتناضل في سبيل إستيعاب الوقائع المحلية والخارجية التي تختلف إختلافاً كبيراً عن وقائع العقود الأولى. فالتهديدات التي يتوقع أن تعالجها هذه النظرية ربما تتطلب حلولاً أقل تألقاً وأكثر تشاؤماً مما كان عليه الأمر في الماضي، إذ لم تعد المعارك الجوية والأرضية التي شهدها القرن العشرين تشكل جزءاً معيناً من العسكرية الإسرائيلية في هذا القرن. ولو أن الماضي هو الدليل الذي يشكل نمط المستقبل فحينئذ لابد للنظرية الأمنية الإسرائيلية أن تتضمن حلولاً تفي بمهمة الدفاع عن وجود الدولة.

 

ترجمة: زهير عكاشة


 

(*) باحث، له العديد من الدراسات الإستراتيجية والأمنية، ونشرت له العديد من الدراسات والأبحاث في مجلة الدراسات الإستراتيجية الأمريكية.


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
16/01/2006 12:16 م