بقلم يوآف بيلد(**) ترجمة زهير عكاشة لا شك أن الانتخابات الإسرائيلية المقبلة المزمع إجراءها في 28 آذار الجاري ستسدل الستار على واحدة من اغرب الحملات التي يشهدها تاريخ إسرائيل. فسلسلة الأحداث غير المتوقعة إطلاقا بدأت أول حلقاتها بمفاجأة انتصار عمير بيرتس على نائب رئيس الوزراء شمعون بيرس خلال التنافس على رئاسة حزب العمل. سحب بيرتس فوراً حزب العمل من الائتلاف الحكومي أرغم رئيس الوزراء آرئيل شارون على الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة. خطوة رئيس الوزراء القادمة كانت تتمثل في الانشقاق عن حزبه أي حزب الليكود وهو الآلة السياسية التي شارك في صنعها عام 1973 وقادها للنصر عام 2001 و2003 ليشكل قائمة انتخابية جديدة أطلق عليها اسم كاديما وتعني بالعربية (إلى الأمام). لقد فعل شارون ذلك لأنه كان يعرف أنه في الوقت الذي كان يضمن فيه انتصاره على بنيامين نتنياهو في الانتخابات التمهيدية للحزب، لن يكون قادراً من ناحية أخرى على مواصلة الحكم في ظل وجود جماعة يمينية متشددة داخل الليكود قد تدخل الكنيست السابعة عشرة على ظهره. لقد كانت مغامرة محسوبة جداً. رسخ كاديما نفسه كحزب قيادي حسب استطلاعات الرأي التي تسبق الانتخابات التي يحصل فيها روتينياً على 40 مقعداً من أصل مجموع مقاعد الكنيست البالغ 120 مقعداً. مكانة الحزب لم تتغير لغاية الآن كثيراً حسب استطلاعات الرأي جراء الجلطتين المتواليتين التي أصيب بهما شارون أو بعد فوز حماس الساحق في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني التي جرت يوم 25 يناير الماضي. سيحصل حزب كاديما بالتأكيد على أغلبية تساوي مكانته في استطلاعات الرأي الأمر الذي يتيح له ويمنحه أفضل فرصة لتزعم ائتلاف حكومي قادم. الواضح أن هذا الحزب يلبي حاجات الجزء الأكبر من الشريحة الانتخابية في إسرائيل. صعود شارون إلى السلطة من اجل اكتشاف هذه الحاجات اكتشافاً جيداً علينا أولا أن ننظر إلى الظروف التي أتت بأب كاديما إلى السلطة عام 2001 وعلى السياسات التي انتهجها خلال الخمس سنوات التي قضاها كرئيس لحزب الليكود. كان صعود آرئيل شارون إلى السلطة نتيجة مباشرة لاندلاع الانتفاضة الثانية التي أشعل شراراتها هو شخصياً عندما قام بزيارة حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق إلى المسجد الأقصى وسط حراسة مشددة شارك فيها نحو ألف شرطي. للانتفاضة أسباب أخرى أكثر شمولية ومنها طبعاً حالة الإحباط الشديد حيال عملية السلام التي انبثقت عن أوسلو وانهيار هذه العملية في كامب ديفيد في يوليو عام 2000، مع أن زيارة شارون كانت الشرارة التي أشعلت فتيل اللهب. اليوم الذي أعقب زيارة شارون كان يوم 29 سبتمبر 2000، تظاهر في هذا اليوم المصلون في المسجد الأقصى فقُتل سبعة منهم على أيدي أفراد الشرطة الإسرائيلية. عاصفة من الاحتجاجات اجتاحت شتى أرجاء الضفة الغربية وقطاع غزة،حيث قتل وجرح الكثير من الفلسطينيين. وعندما انضم مواطنون عرب في إسرائيل إلى الاحتجاجات قتل 13 منهم في أوائل أكتوبر 2000. إطلاق النار هذا من قبل الشرطة الإسرائيلية عليهم ختم مصير رئيس الوزراء إيهود باراك لان المواطنين الفلسطينيين (فلسطينيين 1948) ردوا بمقاطعة انتخابات رئيس الوزراء مباشرة في فبراير 2001 وبدون دعمهم لم يستطع مرشح حزب العمل الفوز فيها. فاز شارون في هذه الانتخابات فوزاً ساحقاً ولكن المقاطعة لم تكن السبب الوحيد. بتحليل أعمق كان انتصار شارون نتيجة لحالة الركود الاجتماعي التي عصفت بالمجتمع الإسرائيلي بحلول التسعينات. ففي عام 1985 دفعت حكومة الوحدة الوطنية بزعامة بيرس من العمل ويستحاق شامير من الليكود بإسرائيل نحو اللبرلة الاقتصادية التي حولت البلاد تحولاً تاماً. لقد جاءت اللبرلة برخاء اقتصادي لم يسبق له مثيل، حيث تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد ثلاث مرات أي من 5.600 دولار سنوياً عام 1980 إلى 15.100 دولار عام 1988، ناهيك عن جذب 2 مليار دولار سنوياً في الاستثمارات الأجنبية في أواسط التسعينات. بيد أن الرخاء الاقتصادي كان بالنسبة للبعض سبباً في توسع الفجوة في توزيع الأجور، حيث أن 30% من الدخل الاقتصادي كان من نصيب العشرة في المائة الاولى من السكان عام 2002. عدم المساواة والتآكل البطيء لرفاهية الدولة كانا أيضاً سبباً في تزايد حدة الصراعات الطبقية. في ظل ضعف نقابة العمال العامة الهستدروت خصوصاً بعد خصخصة أرصدتها وبعد سحب الامتيازات الصحية منها، أصبح المدافع عن رفاهية الدولة حزب شاس وهي طائفة شرقية يهودية متزمتة والتي تستمد الدعم والتأييد من الطبقة العاملة اليهودية. أصبح العداء بين شاس والحزبين السياسيين اللذين يمثلان اليهود الأوربيين من الطبقة الوسطى، ميرتس وشينوي، سمة رئيسية من سمات السياسة الإسرائيلية طيلة التسعينات. وأحد ضحايا هذا الصراع كان مؤسس الحركة والزعيم السياسي الكارزمي آرييه درعي الذي طرد من منصبه بعد محاكمة قضائية، وبالتالي كان لذلك التأثير الأكبر على مصير عملية أوسلو عام 2000. عندما وقعت اسرائيل على اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير عام 1993، اخذ الصراع الطبقي يأخذ بعداً وطنياً ليتمخض عنه تشكيل جبهتين سياسيتين جبهة ليبرالية للسلام والمكاسب بزعامة العمل وأخرى أثنية وطنية للحرب والرفاهية بزعامة الليكود. نص اتفاقية أوسلو وصل إسرائيل قبيل عيد رأس السنة (روش هشناه) وقد استغل أصحاب المصالح والأعمال هذه المناسبة لشراء إعلانات في صحيفة هآرتس اليبرالية يحثون فيها رئيس الوزراء اسحق رابين على "جلب السلام من اجل سنوات الخير" وهم نفسهم المجموعة التي اعتادت على الاجتماع برابين في شقته بتل أبيب مساء كل سبت. كان رابين يطلب منهم إلغاء الضريبة المفروضة على أرباح رأس المال قبل أن تدخل حيز التنفيذ عام 1995. وبحلول نهاية التسعينات نجحت هاتين الجبهتين في فحص كل منهما الأخرى. فمن الناحية الاقتصادية وبرغم تآكل رفاهية الدولة ظلت شبكة الأمان للمدفوعات الرفاهية الأساسية على ما هي عليه بسبب تيقظ وحرص شاس على ذلك. سياسياً عامت أوسلو وانتهت في كامب ديفيد لأنها فقدت دعم شريحة لا بأس بها من الطبقة العاملة اليهودية التي اعتبرت أوسلو سبب اللبرلة الاقتصادية وهم محقون في ذلك. قيادة شاس التي حرمت من خبرة ومهارة درعي والتي تحتل 17 مقعدا في الكنيست الحالية، خضعت لضغوطات ناخبيها من الطبقة العاملة وانسحبت من الحكومة الائتلافية قبل أن يغادر باراك لكامب ديفيد في يوليو تموز 2000. هذه الحقيقة المهملة هي التي لعبت دوراً بارزاً في تقييد حرية باراك في المناورة في القمة وساهمت مساهمة كبيرة في إفشالها.
إستراتيجية شارون المعروف عن شارون أنه استراتيجي تكتيكي لامع ولكن عندما تولى مهام منصبه كرئيس للوزراء تبلورت لديه رؤية إستراتيجية واضحة مارسها بنجاح وعناد. تتألف هذه الإستراتيجية من عنصرين كليهما له علاقة بتفكيك أسطورة العمل أي مراجعة نتائج عملية أوسلو والتأكيد من جديد على سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة وإعادة تشكيل نمط الاقتصاد الإسرائيلي وفق معايير لبيرالية حديثة جداً. فعلى المستوى الطبقي تناغم هذين العنصرين تناغماً جيداً مع رغبات وتمنيات طبقة واحدة من الطبقتين الرئيسيتين وتناقضت مع الأخرى. الطبقة اليهودية البرجوازية التي أيدت عملية أوسلو سعت إلى القضاء على شبكة الأمان الاجتماعية الابتدائية التي نجت على مدار 15 عاما من تآكل حالة الرفاه الاجتماعي في البلاد وقد حولت الطبقة اليهودية العاملة التي امتعضت من اللبرلة الاقتصادية غضبها وإحباطها نحو الفلسطينيين وعملية أوسلو. والذي وحد هاتين الطبقتين منذ سبتمبر 2000 هو الخوف من الفلسطينيين والايمان الجازم بعدم "وجود شريك في السلام"، وهذه أسطورة أشاعتها رباعية باراك المؤلفة من وزير خارجيته ووزير الامن الداخلي شلومو بن عامي والرئيس كلينتون والمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط دينس روس، وما عزز من مقولة لا يوجد شريك هو اندلاع الانتفاضة وما تخللها من عمليات انتحارية. في ظل هذه التطورات وفي ظل المزايا الاقتصادية لأوسلو مثل رفع المقاطعة العربية، اخذ البرجوازيون الإسرائيليون يغيرون من توجهاتهم أي من تحقيق الامن عن طريق السلام إلى تحقيق الامن بأي ثمن. وعد شارون بالقضاء على موجة العمليات الانتحارية (التي بدأت في مارس 2001، بعد توليه زمام الأمور)، وجد صدى ومصداقية له نظراً لسجله كقائد عسكري ميداني ذو مكانة عظيمة. في أواخر مارس 2002 وبعد وقوع عملية إرهابية فظيعة في فندق عشية عيد الفصح، شن شارون هجوماً عسكرياً لإعادة احتلال مناطق الضفة الغربية التي انسحبت منها إسرائيل أثناء سنوات أوسلو لتدمير السلطة الفلسطينية، ككيان سياسي قادر على العمل المستقل. حصار ياسر عرفات في مقره في رام الله ثم وفاته جراء مرض غامض بعد عامين نصف، كان المظهر الرمزي على عجز السلطة الفلسطينية التي ظلت تطالبها رغم ذلك إسرائيل والولايات المتحدة بضرورة تفكيك البنية التحتية للمنظمات الإرهابية. الانفصال اقتصادياً استفادت الطبقة اليهودية العليا من دعمها لشارون في حربه المزدوجة، إذ ارتفع نصيب العشرة في المائة الأولى لذوي الدخل المرتفع من الدخل الاقتصادي من 30% عام 1998 إلى نحو 35% عامي 2004 و2005. لكن في عام 2001 و2002 شهد الاقتصاد الإسرائيلي نمواً سلبياً بسبب الانتفاضة وأزمة التكنولوجيا العالية على المستوى الدولي ونتيجة لذلك إلتف أصحاب رؤوس الأموال الضخمة في الانتخابات العامة عام 2003 حول مرشح حزب العمل ذو التوجهات السلمية عميرام متسناع. ومع أن متسناع خسر فقد تعلم شارون منه كيف استطاع بناء هذا الدعم بين أوساط البرجوازيين وأدرك أن عليه أن يخاطب هذه الشريحة من الناس سياسياً واقتصادياً. لذلك تبنى شارون خطوتين سياسيتين عسكريتين كنا قد عارض استخدامها معارضة شديدة. وعد متسناع الانتخابي على أساس الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة وخطة حزب العمل لبناء جدار فاصل بالضفة الغربية. هاتين الخطوتين رسمتا الخطوط العريضة للسياسة التي سيتبعها شارون ضد الفلسطينيين في حالة ما أفاق من غيبوبته ليتنافس على انتخابات 2006 وهما: الإزالة بشكل أحادي الجانب للمستوطنات الصغيرة والقواعد العسكرية الدائمة في نحو نصف الضفة الغربية والتي تقع بين الجدار في الغرب ووادي الأردن في الشرق. كان شارون يعتزم الاحتفاظ في هذه المنطقة بالكتل الاستيطانية الكبرى والتي أراد أن يضمها وراء الجدار بوسيلة أو بأخرى. لقد حظي شارون من وراء خطة الانفصال عن غزة بسمعة صانع السلام ووصلت مكانته (على الأقل بين الأوساط السياسية)، إلى نقطة كان يستحيل تصورها قبل سنوات قليلة. لكن هذه السمعة تضررت تضرراً كبيراً كون السياسة التي انتهجها شارون لم تكن تهدف إلى صنع السلام أو استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، بل كانت تهدف إلى جعل احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية أكثر اقتصادية من حيث الدم والمال اليهودي كي يتسنى خصم حجم اكبر من الضرائب وكي يتسنى أيضاً التقدم في عملية لبرلة الاقتصاد الإسرائيلي. جاء انتصار حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية تتويجاً لهذه السياسة ليتعزز مفهوم "لا يوجد شريك للسلام"، على المستويين الإسرائيلي والدولي. وهكذا فان ظلم الفلسطينيين وانتزاع أراضيهم وجعل مناطقهم غيتوهات سيستمر وهذه المرة بحصانة أكثر. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف تجاهل شارون واحتقر ما تبقى من السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، حيث رفض دائماً الاجتماع به أو حتى يتركه يحظى بتقدير على انسحاب إسرائيل من غزة. الجانب الآخر من أسطورة شارون يكمن في مستويات الفقر وعدم المساواة التي لم يسبق لهما مثيل واللذين سببهما سياسته الاقتصادية (عزاها البعض، وهذا خطأ، إلى نتنياهو وزير المالية في مجلس وزراءه الثاني)، ولاسيما تفكيكه لشبكة الأمان، لهذا السبب ارتفع (مقياس غيني) الخاص بقياس عدم المساواة في توزيع الأجور بـ 4.3% للدخل المتاح بين الأعوام 2002و200-2005 وبنسبة 6.8% بين الأعوام 1999 و 2004-2005. ومن اجل تحقيق تلك النتائج اضطر شارون إلى إقالة وزراء شاس من حكومته الاولى (عادوا بعد ثلاثة أيام مكبوتين جداً) ثم استثناء شاس بالكامل من حكومته الثانية التي شكلت عام 2003. حتى في ظل تزايد مستويات الفقر وتقليص مخصصات البطالة، أصبحت الطبقة العاملة اليهودية الممثلة بشاس أقوى المدافعين عن عزم وإصرار رئيس الوزراء على فرض الإرادة الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية. في عام 2002 أشارت استطلاعات للرأي إلى أن 89% من ناخبي شاس يعارضون توقيع اتفاق سلام حسب الخطوط التي اقترحها كلينتون عام 2000. أكثر من 60% يؤيدون فكرة طرد الفلسطينيين (الترانسفير) إلى دول عربية مجاورة. بوجود مثل هؤلاء الناخبين الذين سحرتهم معاملة شارون للفلسطينيين لا تستطيع شاس محاربة السياسة الاقتصادية الهدامة التي ينتهجها شارون. بعد خمس سنوات من الحكم يكون شارون قد حقق كل أهدافه الإستراتيجية: الانتفاضة الثانية سحقت، أعيد الامن الشخصي لكل مواطن، الرخاء الاقتصادي للطبقات الاجتماعية العليا تعزز ونسبة شعبيته، بلغت حداً عالياً لم تبلغه شعبية أي رئيس وزراء إسرائيلي سابق. وثمن كل تلك الانجازات دفعها بلا شك الفلسطينيون التي وصلت حالة البؤس الاقتصادي عندهم حسب معايير البنك الدولي إلى أدنى مستوياتها وبشكل دائم في وقت شلت فيه كل تطلعاتهم الوطنية. وهناك أيضاً من الإسرائيليين من دفع ثمن ذلك وهم الشريحة التي يعتمد مصدر رزقها على الدولة سواء في العمل في القطاع العام أو في الحصول على خدمات الرفاه الاجتماعي. هاتين هما قنبلتين موقوتتين تخلى عنهما شارون لخلفه المحتمل إيهود أولمرت. أولمرت وخصومه المعروف عن أولمرت أنه سياسي رث أثرى نفسه من خلال علاقاته بالأغنياء والأقوياء، كما أن فترة ولايته كرئيس لبلدية القدس التي دامت عشر سنوات تركت المدينة وخاصة سكان القدس فيها في حالة سيئة أكثر مما كانت عليه إبان عهد تيدي كوليك. في عام 2003 استطاع أولمرت بشق الأنفس الدخول إلى الكنيست كان يحتل المكانة 33 على قائمة مرشحي الليكود الـ38 الذين تم انتخابهم. لم تتجاوز نسبة شعبية أولمرت عشية رحيل شارون عن المشهد السياسي أكثر من 13%، أما اليوم فتصل إلى 34% والرصيد السياسي الرئيسي له هو ولاء الذل والخنوع والخضوع لشارون الذي هزمه شر هزيمة في الانتخابات التمهيدية لحزب الليكود عام 1999. مع ذلك يبدو أن عباءة شارون بدأت تترتب على كتفي أولمرت والظاهر أن رئيس بلدية القدس السابق ماضٍ نحو انتصار انتخابي مؤثر وهو على رأس دفة كاديما. لاشك أن نجاح أولمرت المتوقع له علاقة قوية بالضعف المتأصل لخصميه بيرتس ونتنياهو. قبل النزول إلى الحلبة الانتخابية كان بيرتس رئيساً لنقابة العمال العامة الهستدروت وكان وسيطاً سياسياً واقتصادياً يحسب له حسابه، أما الآن فقوته سلبت خصوصا بعد دخول إسرائيل مرحلة ما بعد الليبرالية الجديدة عام 1985. وفوزه على شمعون بيرس الخاسر الدائم في السياسات الإسرائيلية، كان في حقيقة الأمر غلبة عدائية. ضم بيرتس عشرات الألوف من أعضاء ومؤيدي الهستدروت إلى حزبه الصغير (عام آحاد) أي شعب واحد لحزب العمل قبيل الانتخابات التمهيدية للحزب، ومع أن الكثير من هؤلاء المجندين لم يكونوا مؤهلين حسب الأسس القضائية وبالتالي تم استبعادهم، فقد ظل عدد لا بأس به استطاع أن يمنحه التفوق. أعضاء حزب العمل القدامى وعلى رأسهم بيرس ردوا على ذلك بهجرة أعضاء الحزب بالجملة والانتقال إلى كاديما. يعتقد أصحاب استطلاع الرأي أن العمل خسر نحو 40% من ناخبيه لصالح حزب شارون لا بسبب تكتيكات بيرتس فحسب بل أيضاً بسبب هويته وسياساته. ولد بيرتس في المغرب وهو أول شرقي تزعم حزباً سياسياً في انتخابات عامة ويرسخ نفسه كرئيس للوزراء وهو أول زعيم لحزب العمل يعتنق مبادئ تقدمية منذ أمد طويل حول الاقتصاد والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وحيث أن ناخبي العمل هم في الأغلب من الطبقتين الاشكنازية الوسطى الطبقات العليا والوسطى، وحيث أن الحزب هضم مقولة باراك بأنه لا يوجد شريك للسلام، إذن لا تستطيع آراء بيرتس أن تلمس العصب الحي لكثير من ناخبيه المحتملين. وإذا ما أخذت هذه العوائق بعين الاعتبار وإذا ما اخذ وضع الحزب في استطلاعات الرأي التي لا تمنحه أكثر مما هو حاصل عليه الآن في الكنيست الحالية (حوالي 20 مقعداً) فقد يعتبر كل ما يحققه بمثابة إنجاز. إذا كانت مشكلة بيرتس تكمن في كونه راديكالياً جداً بالنسبة لناخبيه، فمشكلة نتنياهو تكمن في كونه ليس راديكالياً بما فيه الكفاية. كان نتنياهو وزير مالية شارون طيلة الفترة التي اشتدت فيه الجدالات والنقاشات حول جدوى خطة الانفصال عن غزة وقد صوت لصالح الخطة في اجتماعات مجلس الوزراء وخلال نقاشات الكنيست في كثير من المناسبات وذلك ضد رغبات المخلصين من أعضاء حزب الليكود الذين رفضوا الانسحاب المقترح ضمن الاستفتاء الداخلي الذي جرى في الحزب في مايو أيار 2004. اخيراً استقال من مجلس الوزراء قبل خمسة أيام من بدء تنفيذ العملية وقد اعتبره الكثير من الطاهرين في الحزب متأخراً. وهكذا وفي وقت يعتقد فيه أن كاديما ستخطف نصف المقاعد الاربعين لليكود في الكنيست الحالية، ستذهب خمسة أخرى لأحزاب يمين الليكود. نتنياهو أيضاً مثقل بعبء المسؤولية عن السياسات الاقتصادية التي انتهجها شارون مع أن الكثير منها نفذ إبان فترة ولاية مجلس الوزراء الأولى لشارون والتي لم يشارك نتنياهو فيها بأي حقيبة اقتصادية. السؤال المثير الآن هو: هل سيستطيع أولمرت تنفيذ انسحابات أخرى أحادية الجانب من الضفة الغربية ويكمل خطة شارون؟، لقد صرح أولمرت يوم 13 مارس في مستوطنة ارئيل بالضفة الغربية أنه ينوي بحلول العام 2010 رسم حدود دائمة ننفصل فيها تماماً عن اغلب التجمعات السكنية الفلسطينية، والاحتفاظ بأغلبية يهودية واسعة وثابتة في إسرائيل. مضيفاً أن هذه الحدود ستضم ارئيل التي سماها "جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل"، وكذلك الكتل الاستيطانية في غوش عتصوين ومعاليه ادوميم. إذا دلت استطلاعات الرأي على شيء فإنها تدل على أن الكتل اليمينية في الكنيست القادمة ستحصل على 50 مقعداً كاديما 40 مقعداً واليسار (إن جاز التعبير) 30 مقعداً. ورغم ذلك فإن 25 عضوا فقط من أعضاء الأحزاب اليسارية سيحسبون على أحزاب يهودية، وبالتالي يجوز ضمهم إلى الائتلاف الحكومي (الآخرون من الأحزاب العربية التي لن تُضم إلى الائتلاف). وهذا يعني أن الائتلاف الوحيد المؤيد للفصل الذي يسعى أولمرت إلى تشكيله في الكنيست القادمة سيضم 65 عضو كنيست، ومثل هذا التجمع سيفتقر إلى الاستقرار. وإذا ضم أي من الأحزاب اليمينية إلى الائتلاف فعندئذ لن يكون هناك أي انسحابات أخرى أحادية الجانب. زد على ذلك أن أولمرت لا يمتلك المظهر والقدرة على إملاء رغباته على الأجهزة الأمنية المختلفة كما كان يحظى بذلك شارون. قبل الانفصال عن غزة اضطر شارون إلى إقالة ثلاثة من قادة الأجهزة الأمنية، وهما قائد الجيش الإسرائيلي والموساد وجهاز الامن العام (الشاباك)، من اجل تعاون القادة الجدد في تنفيذ الخطة. لهذه المؤسسات مصالح واسعة في الاحتلال وهي ما انفكت تعارض أي انسحاب بداية بانسحاب مناحيم بيغن من سيناء أوائل الثمانينات. لقد عارض رئيس الشباك يوفال ديكسن في البداية تنفيذ انسحابات أخرى أحادية الجانب خلال اجتماع شبه عام مع المستوطنين اليهود الشباب في الضفة الغربية. حماس انتصار حماس في الانتخابات الفلسطينية، زاد وضع أولمرت تعقيداً. لابد أن شارون كان يؤمن أنه يستطع التعامل مع حماس ويستطيع أن يواصل الاستمرار في الانسحابات أحادية الجانب. قد يكون مخطئاً في ذلك واولمرت بالتأكيد ليس شارون. بينما يقوم الأساس المنطقي للانفصال أحادي الجانب على جملة "لا يوجد شريك" وقد تعزز هذا الأساس بوصول حماس إلى دفة الحكم، إلا أن أي انسحابات أخرى ستفسر بلا شك على أنها مكافأة لحماس وسيصعب جداً ترويجها. حالة الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين ستزيد إذا لم ينفذ انفصال آخر أحادي الجانب بالضفة الغربية، ولا سيما على ضوء قرار إسرائيل معاقبة الفلسطينيين اقتصادياً لانتخابهم حماس ديمقراطياً. هذا القرار سيواجه مشكلة أخرى: يصل حجم الصادرات الإسرائيلية إلى الأراضي الفلسطينية إلى نحو 425 مليون دولار سنوياً (14% من الحجم الكلي للصادرات)، بينما يصل حجم الواردات من الأراضي الفلسطينية إلى نحو 100 مليون دولار سنوياً (2.5 من الواردات الكلية). هذه المبالغ صغيرة إذا ما قورنت بالناتج المحلي الإجمالي لدولة إسرائيل الذي يصل إلى 100 مليار دولار سنوياً لكنها ضرورية لأصحاب المصالح التجارية في إسرائيل، كما أن أي إجراءات اقتصادية تزيد من تعقيد القوة الشرائية الفلسطينية وقطع الواردات سيتسبب في صدام مع أصحاب هذه المصالح. إذا نظرنا إلى الجانب الآخر من الجدار نجد أن الورقة الرئيسية التي قد تلعب بها حماس في مواجهة الإجراءات الإستراتيجية العقابية وأي إجراءات قد يفرضها الغرب تتمثل في قدرتها على حل السلطة الفلسطينية، لأسباب تتعلق بالافلاس المالي. مثل هذا الإعلان سيضع إسرائيل في موقف يعيدها من جديد لتتحمل المسؤولية المباشرة عن حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة كما كان عليه الوضع قبل أوسلو. تعمل السلطة الفلسطينية منذ ابريل 2002، وبشكل صوري كمقاول شرعي لإسرائيل يدير الخدمات الأساسية للفلسطينيين مثلما هو عليه الآن. إذا انتهى وجود السلطة الفلسطينية ستظهر من جديد الطبيعة الحقيقية للعلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين علاقة المحتل بالمحتل، ولن تتمتع إسرائيل بعدها باستخدام القوة ضد الفلسطينيين دون تحمل مسؤولية رفاهيتهم. الضرر الذي سيلحق بالفلسطينيين حينئذ سيتمثل في فقدان المساعدات الاقتصادية الدولية التي تشكل اغلب مصادر الدخل الوطني وتترجم إلى رواتب تعتاش عليها شريحة واسعة من الشعب الفلسطيني، يدفع الشعب الفلسطيني أيضاً ثمناً سياسياً باهظاً نظير هذه المساعدات وإذا أثبتت حماس أنها غير فاسدة فقد تقرر أن مزايا وضع حد لهذه التمثيلية المسماة بالسلطة الفلسطينية يفوق مساؤها. وإذا ما اخذ الضعف الاقتصادي والعسكري للفلسطينيين بعين الاعتبار يكون قلب العربة بالنسبة لهم بهذه الطريقة هو أفضل وسيلة متاحة أمامهم ولاسيما في الوقت الذي تمضي فيه الحرب المزدوجة التي بادر اليها شارون قدماً حتى بعد غيابه.
|
|