خطاب الرئيس محمود عباس أمام المجلس التشريعي 18/2/2006

بسم الله الرحمن الرحيم

" وأمرهم شورى بينهم "

صدق الله العظيم

الأخوات والإخوة أعضاء مجلسنا التشريعي الثاني السادة أعضاء السلك الديبلوماسي

السيدات والسادة الحضور الضيوف الكرام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، انه ليوم عظيم في حياة شعبنا الفلسطيني ومسيرته الوطنية، أن نُنصب فيه دستوريا مجلسنا التشريعي الثاني، هذا المجلس الذي اختاره شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع والقدس، عبر انتخابات حرة ونزيهة شهد العالم كله، من خلال مئات المراقبين، وجرت بكل هدوء منذ البداية وحتى إعلان النتائج. لم يكن لهذه الانتخابات أن تجري، لو تم استبعاد أي فصيل أو تنظيم سياسي، أو منع أهلنا في القدس الشرقية من المشاركة فيها، هذا ما أكدت عليه بأصرار رغم كل الضغوط، وهذا ما حدث فعلا،وها أنا أرى بينكم من يُمثلون القدس، ومن يُمثلون كل الأطياف السياسية الفلسطينية، فهنيئاً للأخوات والأخوة أعضاء المجلس على هذه الثقة، التي منحها الناخبون لهم، مع تمنياتي بنجاحهم في تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم.

وبهذه المناسبة أود توجيه التحية والتقدير الى لجنة الانتخابات المركزية التي قامت بواجبها بكل اقتدار ومسؤولية، وكذلك أوجه التحية والتقدير للمراقبين العرب والأجانب على دورهم في مراقبة الانتخابات واخص بالذكر الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر.

لقد برهن شعبنا بانجازه هذه الانتخابات النزيهة،عن نضج في الوعي والأداء الديمقراطي، وهذا ما ينبغي ان ينظر إليه العالم اجمع، على أنه شهادة جدارة واهلية، لبناء حاضر ومستقبل هذا الشعب، في إطار دولة حديثة يستحقها. وفي ظل نظام ديمقراطي تعددي،تحكمه سلطة القانون، وروح وأخلاقيات العصر الذي نعيش فيه، حيث يتمتع كل مواطن رجلا كان أو امرأة بالحقوق والحريات التي يكفلها القانون. أيتها الاخوات.

ايها الاخوة اتوجه من على منبر مجلسكم هذا، بالتحية إلى شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات، لاؤكد لكل فلسطيني وفلسطينية، بأن فرحتنا الحقيقية ستكتمل فقط، يوم ننال حريتنا، يوم تقوم دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، يوم تحرير أسرانا، ويوم تحل قضية اللاجئين حلاً عادلاً ومتفقا عليه، استنادا للقرار 194، ويوم نحقق حلم قائد ثورتنا، وباني أول سلطة وطنية فلسطينية، القائد الرمز ياسر عرفات. أتوجه بالتحية اليوم إلى أعضاء مجلسكم، الذين يقبعون خلف الأسوار في السجون والمعتقلات الاسرائيلية، مع الآلاف من خيرة أبناء شعبنا الأبطال، وأؤكد لهم جميعا، بأننا لن نألوا جهدا حتى يتم اطلاق سراحهم، وحتى ارى كل نائب منهم يأخذ مكانه في هذا المجلس. وكل أسير يأخذ مكانه اللائق في مجتمعنا الفلسطيني.

السيدات والسادة الحضور لقد أدت نتائج انتخاباتنا إلى نشوء واقع سياسي جديد،

صبحت بمقتضاه حركة "حماس" صاحبة الأغلبية في المجلس التشريعي، وبالتالي، فإنها بعد المشاورات، من سيناط به مهمة تشكيل الحكومة الجديدة، وأتوقع أن تتم تسمية من سيشكل الحكومة، وأن تبدأ المشاورات المعتادة بهذا الشأن. كل ذلك سيترافق مع قيام مجلسكم الموقر بانتخاب هيئة رئاسته، وتشكيل لجانه المتعددة ليكون جاهزا لاستقبال التشكيل الحكومي الجديد، وبرنامج الحكومة وتوجهاتها وصولاً إلى منح الثقة. ونتطلع إلى أن تتم جميع هذه الإجراءات حسب النظام، وفي أقرب وقت ممكن،لأن المهمات الملقاة على عاتقكم في هذه المرحلة، كبيرة وكبيرة جداً، وستجدون من جانبي كل تعاون وتشجيع، ذلك لأن المصلحة الوطنية هي هدفنا الأول والأخير، وهي فوق كل فرد و فصيل. وهنا أنتهز هذه المناسبة، لأتوجه بالتحية لمجلسنا التشريعي الأول،الذي عمل تحت أقسى الظروف. وأنجز عدداً كبيراً من القوانين، وتابع وراقب قدر الإمكان أعمال الحكومات المتعاقبة، والتي هي الأخرى تستحق منا التنويه بأعمالها والثناء على جميع مبادراتها وإنجازاتها. آملين أن تقوم الحكومة القادمة بإكمال مسيرتها، وتطوير أدائها على نحو تتحقق فيه مصالح وأماني الجماهير.

التي انتخبت والتي ستراقب أداء من انتخبت سواء على الصعيد البرلماني أو الحكومي. اليوم وأمام مجلسنا التشريعي الثاني، وكما جرت العادة، أود الحديث معكم، ومع شعبنا ومع العالم بأسره، بكل مسؤولية ووضوح وصراحة، مستعرضاً بداية فصول تجربتنا الوطنية الصعبة والمعقدة، والمليئة بالانجازات الكبرى أيضا، التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية قائدُ هذا الشعب، والمرجع السياسي الأعلى لهيئاته ومؤسساته وإطاراته كافة، وما كان لإنجازاتنا عبر هذه المسيرة الطويلة أن تتحقق، لولا اعتماد منظمة التحرير الفلسطينية على الوحدة الوطنية، وعلى اعتماد أنجع سبل الكفاح، وتبني سياسات محسوبة ومدروسة ومستنيرة، تحكمها المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني،وتستند إلى قرارات الشرعية الدولية.

بفضل ذلك، أفشلنا أخطر المشاريع التي كانت تستهدف طمس الهوية السياسية للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية. واستطاعت المنظمة أن توصل قضيتنا إلى كل ركن من أركان العالم، وإلى كل شعب من شعوبه، حتى فُتحت لنا أبواب الأمم المتحدة، التي وقف ياسر عرفات باسمنا جميعا على منبرها، رافعاً غصن الزيتون مطالبا العالم أن لا تسقطوا من يدي غصن الزيتون.

ولقد تواترت الاعترافات الدولية والاقليمية، بشعبنا وبمنظمتنا وحقوقنا، لتشكل مخزون دعم سياسي ما زلنا نستمد منه القوة والحضور الدولي الفعال.

وكذلك حين بلورنا مع أشقائنا العرب والمسلمين، مبادرات سياسيةً واقعية، تم التعبير عنها بقرارات متوازنة صدرت عن القمم العربية والإسلامية، تضع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني كقضية مركزية للعالمين العربي والإسلامي، وتخاطب العالم بلغة العصر، مما وفر لنا سياجاً معنوياً وسياسياً لا غنى عنه، في جميع مراحل كفاحنا الوطني وتحركنا السياسي. لقد قادت منظمة التحرير هذه الحقبة التاريخية الهامة، على الرغم من وجود قائدها وقياداتها واطاراتها ومؤسساتها خارج الوطن. وواجهت معارك شديدة القسوة للحفاظ على وجودها ورسالتها وحقوق شعبها. وما كان لمنظمة التحرير وللثورة الفلسطينية ان تبقى على قيد الحياة، وأن تتجاوز جميع محاولات التصفية والإبادة، لولا إقدامُها إلى جانب كفاحها المسلح العنيد والصلب، على مبادرات سياسية شجاعة، أضافت زخماً نوعياً للقضية الفلسطينية، واستقطبت دعما هائلاً، إقليمياً ودولياً أدى إلى الاعتراف بها كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، وناطق مقتدر ومؤهل باسمه وباسم حقوقه الوطنية. ومن هذا المنبر، الذي يشكل جزءاً أساسياً من مجلسنا الوطني، أؤكد وجوب استكمال الحوار بين كافة القوى والفصائل، لتفعيل منظمتنا، وتجديد إطاراتها وهياكلها، وتطوير أدائها في كل المجالات. لقد بدأنا بهذا الحوار منذ زمن طويل.

وآن الأوان للتوصل إلى النتائج المرجوة. وفي هذا السياق.

إخواني أخواتي.

فإنني استذكر معكم محطة اخرى هامة، من محطات مسيرتنا الوطنية المظفرة الا وهي.

مبادرتنا التاريخية الشجاعة، في دورة المجلس الوطني عام 1988 في الجزائر، بإعلان قيام دولة فلسطين في المنفى، وإعلان الاستقلال، الذي اقترن باعترافنا بالقرارين 242 و338 مما أسس لدولتنا المنشودة وحدد معالمها ومحتواها، بحيث رفعت هذه المبادرة المدروسة والمحسوبة من مستوى الاعتراف الدولي بنا. وقد ترافق هذا مع تفجر الانتفاضة الشعبية الأولى 1987، التي ساهمت بشكل حاسم في تبني مبادرتنا.فأضحى العالم يتعامل مع شعبنا وقضيتنا وقيادتنا، تعامل دولة لدولة، مما أعطى لهجوم السلام الفلسطيني في حينه، بعدا سياسيا يتجاوز كونه إعلاناً من طرف واحد، ليصبح التزاماً دولياً لكل من اعترف به، وأقام علاقات كاملة مع دولة فلسطين على أساسه. كما أثمرت تراكمات هذا العمل النضالي السياسي، حين وقع اختلال كبير، في التوازن الدولي، بسقوط الاتحاد السوفييتي ونشوب حرب الخليج الثانية،فظهرت الحاجة إلى البحث والتفكير في معادلات استقرار جديدة للمنطقة. ولو لم تكن فلسطين حاضرة كدولة معترف بها، وكمنظمة تجسد كياناً سياسياً وتمثيلياً قوياً، لقفز العالم بقواه الجديدة عنا، ولما فكر أحد بنا، في سياق أية ترتيبات إقليمية ودولية.

وبالتقاط الفرصة لتثبيت هذا الحضور، بدأت عجلة عمل سياسي جديد بالدوران، وبدأ الحوار الاميركي الفلسطيني الذي كان محرماً لعقود خلت، ثم بدأت عملية السلام في مدريد، وكلنا يعرف فصولها وتفاعلاتها وتطوراتها، وفي ذات الوقت كانت قنوات سرية تعمل بموازاة القنوات العلنية.

أسفرت عن اتفاق أوسلو، والإعتراف المتبادل بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد شاعت مقولات عديدة حول هذا الاتفاق، هدفت إلى التشكيك به وإثارة الغبار حول حقيقته، وكان أبرزها أن اتفاق أوسلو تم من وراء ظهر الشعب الفلسطيني، كون المفاوضات، وهذا صحيح، أديرت في نطاق من السرية التامة- وأود هنا تكرار ما أكدت عليه، في الكثير من المناسبات، بأن العمل السياسي في نطاق سري، هو أمر مألوف في جميع او معظم المفاوضات التي تجري بين طرفين متصارعين. أما نتائج المفاوضات، أو الاتفاقات، فهي بالقطع علنية وتكسب شرعيتها من حتمية عرضها على الإطار السياسي والتمثيلي، والحصول على موافقة الإطار عليها، ولقد حدث ذلك، حين قدمنا الاتفاق، بحرفيته إلى المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وناقشته وصوتت عليه وأقرته. منذ ذلك الحين، قبلنا واحترمنا حق أي فرد او مجموعة أو قوة سياسية في الاعتراض على اتفاق أوسلو، ولكننا لم ولن نقبل التشكيك في شرعيته، لأنه ومنذ ساعة المصادقة عليه، أضحى حقيقة سياسية نلتزم بها وسنواصل هذا الالتزام. وبمقياس موضوعي، لما حدث جراء اتفاقات أوسلو، فإننا وإن كنا نعتبرها لا تتضمن كل ما نريد، إلا أنها أدت إلى قيام أول سلطة وطنية فلسطينية على أجزاء من أرض الوطن، وأتاحت عودة الآلاف من أبناء شعبنا من المنافي والشتات. وأسست هذا المجلس- الذي أرادته إسرائيل، في بداية الأمر مجلسا إدارياً لا يحمل أي محتوى سياسي تمثيلي تشريعي، إلا أننا فرضناه كإطار اقرب منه الى برلمان الدولة. وفرضنا الانتخابات كوسيلة لاختيار أعضائه، وطورنا صلاحياته ومسؤولياته، لتصل إلى ما وصلت إليه في قانوننا الاساسي، الذي هو الدستور المؤقت، إلى أن نقر دستورنا الدائم لدولتنا العتيدة بأذن الله. وعلى الرغم من أن الإنجازات التي تحققت في بداية تطبيق اتفاق أوسلو يراها البعض بأنها كانت متواضعة إذ لم يتجاوز الانسحاب الإسرائيلي في المراحل الأولى الواحد بالمائة، إلا أن إسرائيل انسحبت في المراحل اللاحقة من كل مدننا، وكثير من قرانا، وكان متوقعا لعملية السلام أن تقود إلى إنهاء الاحتلال لجميع الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وحلِ جميع قضايا الوضع الدائم،وفق اتفاقات اوسلو ذاتها ومن خلال المفاوضات. وأود التذكير أيتها الأخوات والإخوة كيف ثارت ثائرة القوى المتطرفة في اسرائيل، التي قامت باغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين ونحن في أول الطريق. وفي الحقيقة لم يكن الأمر مجرد اغتيال سياسي، وانما محاولة مقصودة لوضع حد لمسيرة سلمية، كانت تمضي قدما نحو أهدافها. واستبدالها بنهج مختلف، ألا وهو نفي الشريك الفلسطيني، وفرض حلول احادية الجانب، تستند إلى منطق القوة الغاشمة، وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح مع الاستمرار في التوسع الاستيطاني.

وقد جاءت السياسات الإسرائيلية اللاحقة وفق برنامج وإجراءات تعمل على إلغاء إتفاق أوسلو، الأمر الذي جمد عملية السلام وأطلق العنان للتطرف ودمر كل الجهود التي بذلت لخلق مناخ جديد بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وكان ذلك كله بمثابة التمهيد، لعهد رئيس الوزراء أرييل شارون الذي أعلنها معركة مفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، تمثلت في تدمير منهجي لأطر السلطة الفلسطينية ومؤسساتها. لقد أقام جدار الفصل العنصري، وضاعف عمليات الاستيطان في الضفة الغربية وشدد القبضة الحديدية والحصار على الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده وحاصر رئيسها الى ان وافته المنية. وأود في هذا المجال، أن أؤكد، بأننا نتابع مع اصدقائنا في العالم وأشقائنا، أسباب استشهاد الرئيس الراحل القائد الرمز ياسر عرفات، ولن نطوي هذا الملف، فقضية استشهاد أبو عمار ستبقى مفتوحة حتى يتم جلاء كل الحقيقة.

الأخوات والإخوة الحضور، لقد اعتمدت الحكومة الإسرائيلية نهج الإجراءات أحادية الجانب بديلاً عن المفاوضات. وأود تذكيركم بأن اقدام رئيس الوزراء شارون على خطة الانسحاب احادي الجانب من قطاع غزة قُرئت من جانبنا على انها اجراء جراحي، لإلغاء خطة خارطة الطريق، التي قبلناها كمبادرة دولية تتضمن التزامات فلسطينية اسرائيلية متبادلة على الصعيد الأمني، والتزامات إسرائيلية على صعيد وقف الاستيطان والانسحاب العسكري، وعقد المؤتمر الدولي والعودة إلى طاولة المفاوضات لحل جميع قضايا الوضع الدائم وهي "اللاجئون والقدس والمستوطنات والحدود والمياه" وغيرها، وصولاً إلى إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة، وتحقيق السلام العادل والدائم. وهنا أود تسجيل حقيقة موضوعية، لتطورات ما بعد اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين. وحتى يومنا هذا.

وهي ان التطرف الاسرائيلي نجح في ادخالنا الى دائرة الفعل ورد الفعل، وأغرقنا في نزيف دموي، مما خلق مناخا يصعب معه تغليب الجانب السياسي والتفاوضي في ادارة الصراع.

ولا نستطيع أن نتجاهل بالمقابل أنها جرت محاولات جدية وعلى مستويات رفيعة، لوقف التدهور في عملية السلام برمتها، ومنها قمم شرم الشيخ، وقمة كامب دافيد، وآخرها خطة خارطة الطريق و رؤية الرئيس الأمريكي جورج بوش القائمة على أساس قيام دولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية ومزدهرة تعيش بأمن وأمان وسلام جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل. وهذا بدون أدنى شك تطور تاريخي في موقف الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي هذا الإطار وإدراكاً منا للمصلحة العليا لشعبنا الفلسطيني، فقد كان التوصل إلى هدنة وفرت في المرة الأولى هدوء غير مسبوق لمدة لا تقل عن ثلاثة اشهر وما تبعها خلال العام الماضي من تهدئة نسعى معا وبجدية لتثبيتها كي نوفر المناخ المواتي لاستئناف المسيرة السياسية، والعودة إلى طاولة المفاوضات على أساس الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة. أخواتي وإخواني أعضاء المجلس، يجري كثير من الحديث وبنوع من التشهير عن تضخم الجهاز الإداري للسلطة وكلفته المالية المرتفعة، فهل نستطيع أن نتجاهل أن العدوان الإسرائيلي خلال سنوات الانتفاضة قد ترك آثارا مدمرة على وضعنا الداخلي اقتصاديا وإداريا، حيث التحق بطوابير العاطلين عن العمل عشرات الآلاف من العمال الذين منعوا من دخول اسرائيل، وتقلصت رؤوس الاموال الخاصة العاملة في الاراضي الفلسطينية،ولحق الخراب والخسائر بالمؤسسات التي كانت قائمة بسبب سياسة العقوبات الجماعية، والإغلاقات والحواجز وتدمير البنى التحتية واقتلاع الأشجار، وغيرها مما لا حصر له من اجراءات احالت حياة الشعب الفلسطيني الى جحيم. ولقد افضى الوضع المشار اليه، الى تحمل السلطة الوطنية الفلسطينية وحدها جميع هذه الاعباء، وصارت بحكم هذه الظروف هي المسؤولة عن حل مشاكلَ لها اول ولا يعرف لها آخر، يقف في طليعتها مهمة امتصاص جيوش العاطلين عن العمل، وبخاصة من خريجي الجامعات، الذين ينهون دراستهم سنويا بالآلاف، ولا يجدون فرص عمل في ظل ضعف القطاع الخاص، وضعف قدرته على استيعابهم، الامر الذي افضى الى تحول السلطة سواء ارادت او لم ترد، الى اكبر رب للعمل، وهو ما اسفر حكما عن تضخم في الجهاز الوظيفي الحكومي، وأُتخمت الوزارات والمؤسسات بالموظفين.

وكما تعلمون جميعا، فقد أدى هذا الوضع إلى تحميل الموازنة العامة حملا ثقيلا وزاد من اعتمادنا الكبير على الدعم الدولي، وجعل تأمين مستلزمات القطاع الحكومي من رواتب ومصروفات جارية، عمليةً تتطلب من كل حكومة فلسطينية، التحرك بشكل دائم ومستمر لحشد علاقاتنا الدولية وتأمين الدعم من قبل الأشقاء العرب والأصدقاء في العالم، وإذا كانت قد حصلت أخطاء أو تجاوزات أو مخالفات فعلينا أن لا ننسى الانجازات التي تمثلت في بناء المؤوسسات وإععادة الاعمار في مختلف المجلات، وخاصةً قطاعي التعليم والصحة. فقد بدأت الحكومات السابقة، وبتوجيه وإشراف المجلس التشريعي، بعملية إصلاح شاملة تهدف إلى تصويب هذا الوضع الاستثنائي، من خلال ترشيد القطاع العام وتخفيف العبء عن الموازنة. وعلى الرغم من التحديات، التي تواجه هذه العملية، وأولها استمرار الإجراءات الإسرائيلية التعسفية، وما يترتب عليها من وضع اقتصادي متدن، فقد تم إحراز تقدم لا بأس به، وعلى الحكومة القادمة ومن موقع المسئولية الوطنية، الاستمرار في هذا الجهد.

أخواتي وإخواني ومن موقعي، كرئيس منتخب للسلطة الوطنية وكرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، وانطلاقا من برنامجي الذي انتخبت على أساسه أؤكد على ما يلي.

أولاً: سنواصل التزامنا رئاسة وحكومة بالنهج التفاوضي كخيار استراتيجي سياسي واقعي، نجني من خلاله ثمار كفاحنا وتضحيات شعبنا المتواصلة ونضاله الحثيث على مدى عقود طويلة من الزمن.وسنجد عبر ادارة المفاوضات بجدية وحكمة، فرصة عملية لتحقيق أهدافنا الوطنية المشروعة ويدعمنا في ذلك قرارات دولية شديدة الوضوح بشأن قضيتنا وحقوقنا. وفي الوقت الذي نعتمد فيه النهج التفاوضي كخيار سياسي، يتوجب علينا مواصلة وتطوير أشكال المقاومة الشعبية ذات الطابع السلمي. مطلوب منا جميعا الاستمرار في تفعيل و تقوية دور منظمة التحرير الفلسطينية كونها الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا والتي تقود وتشرف على كل ما يتعلق بمصيره بما في ذلك المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. ثانياً: إن تعطيل المسار التفاوضي. من قبل إسرائيل واستبداله بسياسة القبضة الحديدية والمغامرات احادية الجانب ومواصلة بناء الجدار، وتعزيز وتطوير الاستيطان ومواصلة سياسة الاغتيالات لن تؤدي إلا إلى مزيد من التدهور والابتعاد عن السلام والاستقرار واذا كان هنالك من يظن إن هذا النوع من السياسات سيرغم شعبنا على رفع الراية البيضاء والاستسلام فهو واهم تماماً.

إذ انه لا يعرف حقيقة هذا الشعب وايمانه وقوة تصميمه على نيل حقوقه كاملة غير منقوصة، ومن هنا، أؤكد رفضنا المطلق لنهج الأحادية، وأتوجه بنداء إلى العالم المتعطش لرؤية سلام واستقرار في الشرق الاوسط واخص بالنداء اللجنة الرباعية وبوجه خاص الادارة الاميركية، كي تبدأ على الفور جهودا جدية لاعادة المسار التفاوضي الى العمل على اساس الشرعية الدولية ورؤية الرئيس بوش والمبادرة العربية للسلام والاتفاقات والتفاهمات الموقعة من أوسلو حتى خطة خارطة الطريق.

ثالثاً: إن التغيير الداخلي- الذي حدث جراء الانتخابات التشريعية - والذي أدى إلى حصول حركة حماس على أغلبية أعضاء المجلس التشريعي، ونهنئهم، ينبغي أن لا يكون مبرراً لمزيد من العدوان ضد شعبنا ولا مبرراً لابتزاز هذا الشعب. فالشعب الفلسطيني لايعاقب على خياره الانتخابي، وقيادة هذا الشعب وانا شخصيا لأرفض هذا الابتزاز وادعو الجميع الى التراجع عنه. رابعاً: إن عملية إصلاح السلطة الوطنية، يجب ان لا تتوقف، وسأواصل رعاية جميع المبادرات الإصلاحية، سواء تلك التي يقوم بها القضاء، تنفيذا لقرار من جانبنا، او أي مبادرات جديدة تصب في هذا الاتجاه. لأنني مصمم على تنفيذ برنامجي الذي فوضني وانتخبني شعبنا على أساسه وعلى تطبيق الشعارات الأساسية التي رفعتها للوصول إلى سلطة واحدة ثابتة قوية وفعالة، توفر الأمن والأمان لكل مواطنيها وتمتلك القدرة على الوفاء بالتزاماتها وحماية مصالح شعبها. سلطة تحترم القوانين وتلتزم بتنفيذها، وتحترم مؤسساتُها مبدأ الفصل بين السلطات، وتعزيز سلطة القضاء على وجه الخصوص،وفرض سلطة القانون الواحد على الجميع، وسلاح شرعي واحد، وتعددية سياسية، سلطة تكون مقدمة سليمة لولادة دولتنا العتيدة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، التي نحلم بأن نراها اضافة نوعية للدول القائمة في المنطقة، تؤدي التزاماتها بكفاءة ومصداقية وتتمتع بحقوقها على قاعدة العدالة، ولا نريد اكثر مما كفلته لنا الشرعية الدولية ككل لا يتجزأ. وكما أجرينا انتخابات حرة ونزيهة، نتطلع لرؤية حكومة تواجه التحديات وتؤدي مهامها بكل كفاءة واقتدار وبمناسبة الحديث عن حكومتنا العتيدة فإنني أذكّر أعضاء المجلس- واعضاء الحكومة القادمة- بحتمية احترام كافة الالتزامات الموقعة، والعمل بمقتضى المصلحة الوطنية على انهاء ظاهرة الفوضى، فوضى السلاح وبما ان الجميع يشارك الآن في بنية وهيكليات سلطة وطنية بكل مؤسساتها فعلى الجميع، دون استثناء أن يلتزم بحتمية وجود سلاح واحد هو سلاح الشرعية.

خامساً: إني وبعد كل ما تقدم، أؤكد على حقيقة كانت بمثابة الدرع الواقي لثورتنا ومنظمتنا وسلطتنا الا وهي عدم الانجرار في مواقفنا وسياساتنا، الى أي تمحور من أي نوع ذلك لأننا نعتز بعمق انتمائنا العربي والإسلامي ونعتز بدورنا الوحدوي والتوحيدي فيهما، مثلما نعتز بوقوف الجميع معنا ومع حقوقنا وعدالة قضيتنا واحترام قرارنا الوطني المستقل. أيتها الأخوات أيها الاخوة: اسمحوا لي. . أن أتطرق إلى أحد أهم وأخطر جوانب تجربتنا في السلطة الوطنية، وأعني به الأمن.

إن البعد الأمني في مشروعنا الوطني، ظهر ومن خلال تجربة السنوات العشر الماضية، على انه بُعد مفصلي رئيسي، يتحدد على ضوء ادائنا له، مستقبل تجربتنا، ومشروعنا. والأمن. . هو توفير الأمان للمواطن وللمجتمع بأسره، أمان للحياة من كل جوانبها. أمان لكل من يعيش على أرضنا وبين ظهرانينا. والأمن هو تنفيذ التزاماتنا وهنا تقع على كاهلنا جميعا مسئولية كبيرة لمواجهة الفوضى التي تجتاح بعض مدننا، عبر عمليات السطو والاقتحام المسلح، واختطاف الأجانب، والأشقاء، الذين هم جميعا يعيشون على أرضنا. وعلى الحكومة الا تسمح، باستخدام هذه الظاهرة المشينة، وينبغي اتخاذ الاجراءات الصارمة والناجعة لوضع حد نهائي لها، ينبغي ألا يُسمح لاي عابث باستغلال ارقى الشعارات واعدلها، كي يمارس ابشع اشكال وصنوف التعدي على حرمة حياة المواطن وممتلكاته وعلى الضيوف والبعثات الدبلوماسية. إن تحقيق الأمن يتطلب ايلاء المؤسسة الامنية كل الاهتمام لتمكينها من أداء دورها بما في ذلك التجهيز والتدريب، وعلى الجانب الاسرائيلي،ودول المجموعة الرباعية أن تسهل وصول السلاح والتجهيزات لقوى الأمن، نحن لا نريد أن نتعاون مع المافيات والمهربين ولن نقبل أن نتعامل مع المافيات والمهربين، نحن دولة وسلطة تحترم نفسها، ونريد أن نأتي بمعداتنا عبر الأصول والطرق القانونية. ويجب الاستمرار في عملية إعادة الهيكلة وفق القانون الاساسي، وفي هذا الإطار سنعمل بشكل جدي وحاسم على تنشيط عمل مجلس الأمن القومي ليقوم بدوره في رسم السياسات الأمنية وتوجيه عمل الأجهزة الأمنية.

السيدات والسادة الأخوات والأخوة أعضاء المجلس كثيرة هي المهام والاعباء، فهناك قطاع التعليم الذي يتطلب الاسراع في تطويره من خلال بناء المدارس والمعاهد والجامعات القادرة على مواكبة التقدم العلمي والاجتماعي. إن التعليم العصري الذي يستند إلى متطلبات التطور والانفتاح على العالم، وبذل روح التفكير الحر والاجتهاد ومقاومة الانغلاق والتعصب، هو صمام الأمان لتنشئة أجيال جديدة في جو صحي يساهم في التنمية والتحديث والتقدم بمجتمعنا وشعبنا، وكل ذلك إضافة للقطاع الصحي ،والاقتصادي والصناعي والزراعي والتجاري والثقافي والرياضي والسياحي وفي مجالات البيئة وكلها تحتاج إلى إكمال ما بدأناه والبناء عليه نحو مجتمع حر متقدم، نحو إنسان فلسطيني جديد مفعم بالأمل وبالنظرة نحو المستقبل، والاهتمام بوضع إخوتنا وأخواتنا المعاقين والجرحى، وأسر الشهداء والأسرى من أهلنا وجيوش الشباب العاطلين عن العمل والأسر الفقيرة فلا ننسى أن النسبة الكبيرة من شعبنا تعيش تحت خط الفقر.

إن بناء دولة ومجتمع جديرين بصفة الحداثة والتقدم، يتطلب منا جميعا الحفاظ على المكتسبات التي حققتها المرأة في المجتمع الفلسطيني والحيلولة دون أي انتقاص من دورها، فالمرأة الفلسطينية ناضلت وقاومت جنباً إلى جنب مع الرجل وصمدت بجواره على أرض وطنها وتساوت معه في الاستشهاد والسجن، ويحق لها أن تتساوى معه في جميع الحقوق بعد أن تساوت معه في جميع الواجبات.، فكل التحية إلى المرأة الفلسطينية. موضوع آخر أود التذكير به والتركيز عليه، وهو يتعلق بالنسيج الاجتماعي والوطني لشعبنا الفلسطيني،ان مسلمي ومسيحيي فلسطين، مواطنون متساوون امام القانون. وأود التأكيد على أهمية حماية الحريات العامة والحريات الشخصية وفق القانون، وعدم المساس بها تحت أية ذريعة كانت، بما يشمل حرية التعبير والانتماء وسائر أشكال الحريات، بما فيها حرية مؤوسسات المجتمع المدني.ونحن ملتزمون بتأمين وحماية ورعاية جميع الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية، ولن نسمح لأية مجموعة مارقة او جاهلة ان تثير نعرات طائفية، ففلسطين مهد الديانات السماوية أرض الإسراء والمعراج، أرض الأقصى، كما هي أرض المهد وكنيسة القيامة. ويقودني الحديث أيها الاخوة الى موضوع القدس، قلب فلسطين النابض، لأؤكد أمامكم وأمام العالم أجمع واخص بالذكر الجانب الاسرائيلي، أن الإجراءات التي تتم من عزل للمدينة وطرد لمواطنيها على شكل تطهير عرقي للمسيحيين والمسلمين الفلسطينيين، والاصرار على تهويد المدينة، كل ذلك وغيره من الاجراءات الاسرائيلية التي تتناقض مع القانون الدولي، لن يكون لها اي نوع من الشرعية، ولن تشكل امرا واقعا يقبل به أي مواطن فلسطيني، وإن العناد الاسرائيلي بشأن القدس ومستقبلها سيحول دون تحقيق الهدف الذي نصبو اليه، وهو تحقيق سلام عادل بين دولتي فلسطين واسرائيل. ادرك وتدركون حجم الأخطار التي تتهدد مدينة القدس وسكانها، وأتوجه بنداء الى العالمين العربي والاسلامي، وكذلك الى العالم المسيحي من أجل مد يد العون والمساعدة لأهلنا في القدس وتوفير سبل صمودهم وبقائهم، ومن جانبنا فسنعمل بكل الجهد والتصميم لتوفير الإمكانيات الكفيلة بتثبيت بقاء اهلنا في القدس.

أيتها الأخوات أيها الاخوة: باسمكم جميعا أتوجه بالتحية والشكر والتقدير إلى أشقائنا في الدول العربية، وإلى الأشقاء في العالم الإسلامي، وإلى الأصدقاء في العالم أجمع شعوبا وحكومات، على دعمهم ومساعداتهم وتأييدهم لشعبنا الفلسطيني.

وأتوجه إلى جيراننا الإسرائيليين، خاصة وأنهم على أبواب انتخابات برلمانية لأؤكد لهم بأن الطريق إلى الأمن يمر عبر السلام العادل، وبأننا واثقون أنه لا حل عسكري لهذا الصراع، وأن المفاوضات بيننا كشركاء متساوين من شأنها وضع حد لدوامة العنف التي آن الأوان لنوقفها.

وأقول لهم بكل صراحة ووضوح أن استمرار الاحتلال والاستيطان وآخر فصوله الهجمة الاستيطانية التي تستهدف منطقة الأغوار لعزلها عن باقي الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والحواجز والقتل العشوائي وبناء الجدار والاعتقالات تقود إلى الكراهية واليأس وإلى استمرار الصراع.

فلنصنع معاً السلام اليوم قبل الغد، ولنعش في دولتين متجاورتين، ولنثقف أبناءنا ثقافة الحياة لا ثقافة الموت، ولنعلمهم إن الإنسان الحر هو من يدافع عن حرية الآخر، وأن من يحب الله هو من يحب أخاه الإنسان. وأود أن أؤكد بشكل خاص على أن عهد الحل أحادي الجانب قد انتهى، وان محاولة رسم مستقبل شعبنا في إطار حل الكانتونات والمعازل وتمزيق الضفة الغربية والاستيلاء على الأغوار، وعزل القدس وتكريس الكتل الاستيطانية، سيؤدي إلى إغلاق أبواب الحل بيننا.

إن هناك شريكاً فلسطينياً على استعداد للجلوس على طاولة التفاوض مع شريك إسرائيلي، للوصول إلى حل يستند إلى قرارات الشرعية الدولية، والمبادرة العربية، وخطة خارطة الطريق، وينطلق من إننا نريد حلاً عادلاً يضمن إنجاز السلام، وليس حلاً جزئياً منفردا أو مؤقتاً يقضي على تحقيق فرص السلام.

إن الدولة ذات الحدود المؤقتة خيار مرفوض من قبلنا، وقد جاءت على إنها خيار في خطة خارطة الطريق، ونحن اخترنا ورفضنا، ونحن في انتظار ان تحزم الحكومة الإسرائيلية أمرها، وتتخذ قرارها في هذا الشأن، لأن قرارنا في هذا الصدد هو الاستعداد التام لبدء مفاوضات الوضع النهائي فوراً.

وأؤكد للعالم أجمع أننا نؤمن بان الحق فوق القوة، وأننا سنظل متمسكين بنفس العزيمة بحقوقنا وبرغبتنا في السلام، وعلى العالم بأسره أن يتحمل مسؤولياته لجعل الحلم حقيقة. . السلام في الأرض المقدسة. . السلام في أرض السلام.

وفقكم الله

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

المصدر : وفا 18-2-2006


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
03/05/2006 11:11 ص