كينيث براون
* أدرك المشاهدون الاوروبيون حيوية السينما الاسرائيلية من خلال افلام مثل "الزواج" لرونيت الكابتز و"ستمشي على الماء" لايتان فوكس او ايضا "منطقة حرة" لاموس غيتاي. مع انها اقل حضورا على الشاشات الاوروبية الا ان السينما الفلسطينية تعيش تجددا حقيقيا وهذا هو الدرس الذي يمكن الخروج به من آخر مهرجان للسينما في مدينة حيفا. في منتصف شهر تشرين الاول/اكتوبر 2005، استقبلت حيفا، ثالث المدن الاسرائيلية وأول المرافئ والمركز الصناعي في البلاد، المهرجان الحادي والعشرين للسينما. وخلال ثمانية ايام، تابع ما يقارب المئة الف مشاهد عرض 150 فيلماً. وبحسب ينينا بلاير، المديرة الفنية للمهرجان، فإنّ هذه الدورة كانت الافضل في دورات المهرجان الذي يُهيمن على الحياة الثقافية للمدينة. وكان المنظمون يحاولون عبثاً إشراك المخرجين العرب، إلاّ أنه تمّ السنة تخصيص يوم للسينما الفلسطينية الجديدة. إنّ حيفا هي المدينة الوحيدة في اسرائيل حيث يتعايش عدد كبير من العرب، في السرّاء والضرّاء، مع اليهود الاسرائيليين. فمن أصل 250 الف نسمة، هناك 10 في المئة من العرب، كما أنّ 30 في المئة هم من الطلاب. والمدينة فخورة بهذا التعايش. وبحسب الكاتب أميل حبيبي ، النموذج المثالي لفلسطينيّي حيفا، فإنّ العرب الذين بقوا في حيفا بعد 1948، يعيشون بسلام مع اليهود... شرط أن يستمرّوا في أسفل المدينة، جسدياً ورمزياً. من باب المصادفة أنّ حيفا كانت تحتفل، في الوقت نفسه، بالذكرى المئوية لتدشين سكّة حديد الحجاز من قبل العثمانيّين. وكان القطار يصل الى مكّة مروراً بدمشق، مُحمّلاً بالشعير والقمح من الداخل السوري، ليحمل في العودة الحجّاج المغاربة القادمين عن طريق البحر. وقد ساهمت سكّة الحديد في تحويل مدينة عثمانية صغيرة من 18 الف نسمة الى مدينة حديثة. وكانت بدأت بالتوسّع صعوداً على سفوح جبل الكرمل، وخلال عقديْن من الزمن تحوّلت الى مرفأ حديث ذي كثافة سكانية لا بأس بها، وسط المنطقة الخاضعة للانتداب البريطاني، وهي تحتوي على الصناعات وتمارس المبادلات التجارية المعقّدة. وكان نصف سكانها، على الاقلّ، البالغ عددهم حينذاك المئة ألف نسمة، هم من اليهود المهاجرين الصهاينة القادمين أساساً من بلدان اوروبا الشرقية. وكانت غالبيتهم غادرت الحيّ السفليّ لتُقيم في المرتفعات. دمشق والقدس تبعدان عنها سفر ثلاث ساعات في السيارة. أراد البريطانيون أن يجعلوا منها مدينة خضراء بثلاثة مستويات. في الثلاثينات، تحوّل المستوى الوسيط، "هادار هاكارمل" الى "حيفا الحمراء" معقلاً لليسار. وُلدت الحركة الوطنية الفلسطينية في أوساط السكان العرب في المدينة السفلى، وهناك اندلعت الثورة في نهاية الثلاثينات. بقيت حيفا خارج المعارك في العام 1948، لكن غالبية الفلسطينيين غادروها بالقوة او من خوف او تبصّر. من الـ 70 ألفاً لم يبقَ سوى 3500، بينما الباقون الذين تحوّلوا الى لاجئين يتوقّع العديد من العرب واليهود عودتهم القريبة، كانوا ممنوعين من العودة. كان لأميل حبيبي، المولود في حيّ وادي النسناس، تأثير في ضمير الفلسطينيين واليهود الاسرائيليين، وكُتبت على قبره عبارة "ما زلتُ في حيفا". وقد نال هذا الكاتب الساخر، الحزين واللامع، جائزة اسرائيل الادبية عام 1992. مضى جيلان كي يتوصّل من بقوا في حيفا عام 1948 وذرّيتهم الى تجاوز حالة البقاء الى جانب الاسرائيليين ("الامور حسنة لانها يمكن أن تصبح اسوأ")، لينتقلوا الى التعبير عن وجودهم. وقد نجحوا في هذا التعبير من خلال السينما. ستة أفلام عُرضت في اليوم الفلسطيني، وكانت درّة العقد "الجنّة الآن" للمخرج هاني أبو اسعد وهو من الناصرة ويعمل حالياً في أمستردام. وقد نال هذا الفيلم الذي صفّق له النقاد جائزة "الملاك الازرق" الذي يذهب الى أفضل فيلم اوروبي في مهرجان برلين للسينما عام 2005. إنها رواية الـ48 ساعة الأخيرة التي يعيشها شابّان في نابلس، قبل أن يُرسلا كانتحاريّيْن الى تلّ ابيب. بنظر ناقد "النيويورك تايمز"، نجح المخرج في الامتحان الدقيق بالإضاءة على الناحية الانسانية في منفّذي العمليات الانتحارية. لقد نجح على الأرجح، لكن ليس بصورة مُقنعة تماماً. الفيلم الفلسطيني الذي لفت الانظار كان بالتأكيد "اهدأ" لسماح الزعبي (من قرية في جوار الناصرة)، وهو تحفة صغيرة من 18 دقيقة ونصف الدقيقة. يرسم الفيلم (الذي حصل على جائزة في مهرجان كان)، باقتضاب، صورة أب وأبن عائديْن الى الناصرة بالسيّارة بعد مأتم خال الصبي في الضفة الغربية. بين مشاهد ينهال فيها الجنود الاسرائيليون إذلالاً على الوالد الضعيف والمُستسلم، يروح الابن يسأل الأب عن وفاة الخال. يجيبه أنه مات من المرض، لكن الابن الذي احتفظ بكوفيّة خاله الملطّخة بالدم يعرف أنّ هذا الأخير قُتل على أيدي الاسرائيليين. يتابع المُشاهد ببطء كيف تتحوّل خيبة الابن الصامت الى غضب واحتقار تجاه والده. إنها رمزيّة الذلّ العربي في اسرائيل وتصاعد التمرّد في اوساط الجيل الجديد. هنالك مشهد يتكرّر في فيلم "منذ غادرت" يظهر فيها المخرج، محمّد بكري وهو ممثل معروف ولد عام 1953 في البعينه في الجليل، جالساً بالقرب من مدفن أميل حبيبي يُخبره استعادة لما حلّ في "بلادهم العزيزة" منذ وفاة الاديب عام 1996. وكان المخرج قد حقّق في العام 2002 فيلماً بعنوان "جنين جنين" حول المعارك الطاحنة التي دارت في مخيّم اللاجئين هذا، وكان أول فيلم تتعرّض له الرقابة في اسرائيل منذ 15 عاماً. وقد تقدّم بكري ومحاميه افيكدور فلدمان بدعوى امام المحكمة ونجحا في رفع الحظر عن الفيلم في تشرين الثاني/نوفمبر 2003، وقد أكّدت القرار المحكمة العليا بعد أن طلب المدّعي العام تمييز الحكم. في الاثناء، كان الفيلم يُعرض في العالم أجمع، بينما كان يمكن الحصول عليه في اسرائيل على شكل أشرطة فيديو وضعها المخرج وأصدقاءه في التداول. لكن بكري يروي أيضاً لحبيبي كيف أنّ أبناء أخيه شاركوا في انفجار أوتوبيس "ميرون". في الثالث من آب/اغسطس 2002، قام ياسين وابراهيم بكري، وهما مواطنان اسرائيليان، بإرشاد شاب فلسطيني (انتحاريّ) من جنين على خطّ الحافلات التي يستقلّها الجنود. كما استضافاه لليلة واحدة، قبل أن يُرافقانه في الصباح الى موقف الحافلة. قتل الفلسطيني تسعة اسرائيليين إضافة اليه، وبعد اعتقالهما اعترف الشابان وحُكم عليهما بالسجن المؤبّد في شباط/فبراير 2003. في "منذ غادرت"، يتحدث محمّد بكري مع شقيقه عن هذا الحدث وهما لا يجدان سبيلاً لفهمه. اتاح النقاش الذي تبع الفيلم المجال أمام المخرج وأيضاً امام جوليانو مير خميس ـ وهو ممثّل مسرحي كبير في اسرائيل وكانت له العام الماضي مسرحية استثنائية بعنوان "أبناء ارنا" ـ بأن يؤكّدا بأنّ دورهما هو الشهادة على ما حصل معهما وتقديم ملاحظاتهما الخاصة. فهما شاهدان إزاء العمليات الانتحارية وليسا حكَميْن. الوثائق الذاتية هي في نظرهما الوسيلة الوحيدة لإعطاء معنى للعالم اليوم. هنالك مشهد في "منذ غادرت" يثير الحيرة. يتحدّث المحامي افيكدور فلدمان مع نفسه، ليقول أنه ما أن بلغ العشرين من العمر حتى زال من الوجود في نظر أمه التي كانت برهنت له عن حبّ كبير قبل ذلك. انسحبت الى داخل نفسها مع ذكريات اعتقالها في أحد المعسكرات النازية. يصوّر بكري هذه الشهادة بالكثير من الحنان. ومع المسافة، يكتسب هذا المشهد مغزاه: يعترف المخرج بعذاب الاسرائيلي الذي أمضى قسماً كبيراً من حياته كرجل يعمل للاعتراف بعذاب الفلسطينيين والدفاع عنهم. فلْنعدْ الى "ابناء ارنا" ، وارنا هي والدة جوليانو مير خميس. غادرت عائلتها اوروبا الشرقية لتستقرّ في فلسطين منذ أجيال عديدة. وقد التحقتْ ابنة استاذ الطبّ المشهور بفصائل النخبة التابعة للجيش اليهودي السرّي (البالماخ)، لتتزوّج بعد حرب 1948 من صليبا خميس وهو مثقّف عربي بارز في الناصرة وعضو فاعل في الحزب الشيوعي الاسرائيلي. وكانت ارنا، طوال الخمسين عاماً التالية، إحدى الوجوه الأسطورية لليسار الاسرائيلي. عام 1988، وخلال الانتفاضة الاولى، اشرفت ارنا على نظام تربوي بديل لأبناء مخيّم جنين، وانشأتْ بالتعاون مع نجلها "مسرح أطفال الحجارة". بدأ جوليانو تصوير نشاط والدته مع الصغار وهي تشجّعهم على التعبير عن كبتهم وغضبهم ومرارتهم وخوفهم. وسيكون حاضراً للتصوير عام 1996، عندما تأتي ارنا وهي في النزاع الاخير، بسبب مرض السرطان على الأرجح، لتقول وداعاً لأطفال جنين. سيتوقّف المسرح عن العمل بعد وفاتها. في العام 2002، ومع استعادة الجيش الاسرائيلي الضفّة الغربية، وقعت المأساة في مخيم جنين. حمل جوليانو كاميرته وراح يبحث عن الصغار الذين شاركوا في المسرح. يوسف سقط برصاص الشرطة في الخضيرة، بعد أن أطلق النار على مجموعة من الأبرياء كانوا ينتظرون الحافلة، فقتل أربع نساء. أشرف، الذي كان يريد أن يصبح ممثّلاً، فجّر نفسه في جنوب اسرائيل ولم يُعثَرْ على جثّته. المتبقّي الوحيد من "ابناء ارنا" هو علاء، قائد شهداء الاقصى في المخيّم. يصوّر جوليانو المأساة اليومية في المخيّم وحياة الممثلين الصغار في مسرح أرنا، خلال الانتفاضة الاولى، ومن بعدها النضال ضدّ الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية. ليس أبلغ دلالة على قساوة الاحتلال من مشهد هؤلاء الصغار يمثلون أدوارهم وهم يتكلّمون عن الفن والحياة قبل أن تُلفّ أجسادهم بكيس من البلاستيك. يقول إسحق لاور في "هآرتس": "لقد تمّ تصوير (ابناء ارنا) بيد ترتجف من التأثّر ومن شخص لا يعرف على من يبكي: والدته، شباب مخيّم جنين او آمال الحرّية الحارقة التي تدوسها الأرجل؟". لا يخبرنا هذا الفيلم، الشاهد على هذه الحيوات الفاقدة للأمل، ما اذا كان هؤلاء المراهقون ضحايا او أبطالاً أو الإثنيْن معاً. الكاميرا تصوّر أمّهات بلا دموع لا يسألْنَ عن القرية التي طُردْنَ منها في جبل الكرمل قبل الوصول الى مخيم جنين. ذلك أنّ الفيلم، وفق إسحق لايور أيضاً، لا يدور حول فلسطين بل حول (الموت العبثيّ) لهؤلاء الشبّان". إنه "إحياء للأموات: ارنا، ارنا الكبيرة بصوتها المكسور والمفعمة بالقناعة، والشبّان اشرف، يوسف وعلاء". لا يقدّم جوليانو خميس نفسه كيهودي او عربي بل الإثنان معاً. يرتاح في العربية كما في العبرية، وفي تعليقه من خارج الصورة على الفيلم بالانكليزية نسمع منه اللّهجتيْن. إنّ الافلام التي قُدّمت، خلال يوم السينما الفلسطينية، أدخلت العربية الى مهرجان تسيطر عليه العبرية او الانكليزية. بيد أنّ للتعايش حدوداً. فعندما يتكلّم أحد ممثّلي المركز الثقافي البريطاني عن "أهمّية التسامح في اسرائيل"، حيث يُسمح بعرض افلام فلسطينية مناهضة لاسرائيل، ينبري جوليانو ليذكّر الجمهور أنّ هذه الافلام تشهد في الوقت المناسب على الخطاب حول الديموقراطية الاسرائيلية المزعومة. لكن عرباً فلسطينيّين حضروا عرض فيلم بكري، يتسلّون بمزيج الهزل والسخرية العربية والعبرية. ويُحيي المنتج الاسرائيلي للفيلم السينما الفلسطينية، لأنّ من شأن طابعها الخلاق المساهمة في ولادة مجتمع منفتح وتعدّديّ في اسرائيل. إرتاح الكثير من الاسرائيليين للانسحاب من غزة، ولو في الظاهر. هذا ما كان عليه شعور حيفا من فوق جبل الكرمل، حيفا البورجوازية المتحرّرة والمُحِبّة للحياة. والنظرة اللّئيمة للأمور تقول أنّ البلد بين أيدي اليمين، او تحديداً آريل شارون ورفاقه والمافيات، لكنّ اسرائيل لم تعد في رأس اللائحة السوداء العالمية. إنه تقدّم! حتى في أوساط المستوطنين يقرّ البعض بالهزيمة، لكن المؤقّتة، بحسب ما صرّح به أحدهم الى صحافيّ اسرائيلي: "أنتم مغتبطون اليوم، لكنكم ستذرفون الدمع ذات يوم عندما نسيطر على البلاد". أكبر جادات حيفا، جادّة الصهيونية، تتحدّث مطوّلاً عن التعايش. تبدأ بمحلاّت بيع الفلافل في المدينة السفليّة في حيّ وادي النسناس، لتتسلّق جبل الكرمل، مروراً بالحيّ البهائيّ، وصولاً الى الأحياء اليهودية التي تقطنها الطبقات الوسطى والعليا، على قمة الجبل. حتى العام 1948، كان هذا المحور يُسمّى "طريق الجبل"، لكنه سُمّي بعد الحرب "جادة الامم المتحدة" تمجيداً للمنظمة الدولية. لكن في تشرين الثاني/نوفمبر 1975، عندما صوّتت الجمعية العامة للامم المتحدة على قرار يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصريّة، أُطلق عليه اسم "جادة الصهيونية". وكان من المُفترض إعادة اسم الأمم المتّحدة اليه بعد اتفاقيات أوسلو، لكن اليافطات حافظت على الاسم السابق. * عالم الإناسة، مدير مجلة Méditerranéennes.
|
|