عاطف المسلميلا يخفى على أحد من المتابعين للشأن السياسي الإسرائيلي، أن إسرائيل كما هو حال العالم الخارجي قد فوجئت إلى حد كبير بالنتائج التي آلت اليها الإنتخابات التشريعية الفلسطينية، التي جرت في الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2006، وفازت فيها حركة المقاومة الإسلامية حماس بأغلبية مقاعد البرلمان الفلسطيني. فإذا كانت هذه النتائج قد فاجأت الفلسطينيين أنفسهم وخالفت جميع استطلاعات الرأي الفلسطينية التي أجريت قبيل الإنتخابات، فهي بالتأكيد أذهلت الإسرائيليين الذين يتابعون من خلال أجهزتهم الأمنية والاستخبارية كل حركة وكل سكنة في الأراضي الفلسطينية. إلا أن هذا الذهول وهذه المفاجأة لا تعني بالقطع أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أسقطت من حساباتها تماماً احتمال فوز حماس بأغلبية المقاعد، وإن كانت جعلته الاحتمال الأقل وقوعاً استناداً على تقدير أن الشارع الفلسطيني في معظمه مؤيد بقوة للتسوية بدليل انتخابه للرئيس محمود عباس (أبو مازن) ذي التوجه الواقعي في التعامل مع ملف التسوية السلمية مع إسرائيل، بالإضافة إلى كون حماس نفسها لا تطمح للحصول على الأغلبية. ويجب أن لا توهمنا الاتهامات بالتقصير التي تم تبادلها بين رؤساء الأجهزة الأمنية، بأن هذا الاحتمال لم يُطرح خلال المداولات داخل الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية، ويكفي أن نشير إلى تصريح لرئيس الشاباك "يوفال ديسكن" في إحدى المداولات: "لن أسقط عن الكرسي إذا فازت حماس"[1]. وبرغم أن هذا الاحتمال ظل بعيدا من وجهة النظر الاستخبارية والسياسية، إلا أن إسرائيل، وعلى عكس ما يعتقد، لم تهمله بدليل الحملة الإعلامية والسياسية المبرمجة التي أطلقتها مباشرة بعد إعلان نتائج الإنتخابات، حيث انطلقت الآلة الإعلامية الإسرائيلية بشكل خاص، واليهودية عبر العالم بشكل عام، في توجيه رسائل للعالم الحر عن الخطر القادم من وراء فوز حماس، وذلك تمهيداً لاتخاذ خطوات عملية على الأرض وضعت مسبقاً للتعامل مع هذا الاحتمال بالتوافق مع خطوات دبلوماسية خارجية. ومما لا شك فيه أن إسرائيل تشعر الآن بالندم على الانصياع للضغوط الأوروبية والأمريكية لتمكين حماس من المشاركة في الإنتخابات الفلسطينية من باب استدراج حماس التي تعارض السلام مع إسرائيل بشدة للدخول إلى اللعبة السياسية لتحويلها تدريجياً إلى حزب سياسي معارض يمكن احتوائه والسيطرة عليه، وتسجيل أول انتصار أمريكي –أوروبي في الحرب ضد حزام المقاومة الإسلامية الممتد من أفغانستان مروراً بالعراق ولبنان وانتهاءً بالأراضي الفلسطينية. لقد جاءت نتائج الإنتخابات الفلسطينية على عكس ما تمنت إسرائيل وأمريكا، وباتت إسرائيل ترى أنها أكثر المتضررين من هذه النتائج، وتطالب الذين نصحوها أو ضغطوا عليها لتسهيل مشاركة حماس في الانتخابات بالوقوف إلى جانبها في حصارها لحماس، ومحاولة إفراغ هذا الانتصار من محتواه عبر عدة شروط وإملاءات على حماس تنفيذها قبل أن يسمح لها بالانخراط في المجتمع الدولي، أو الاعتراف بها وإخراجها من قائمة الحركات الإرهابية. ولا يمكن هنا إغفال العامل السياسي الإسرائيلي الداخلي الذي يؤثر تأثيراً مباشراً على تعامل حكومة إيهود أولمرت الانتقالية مع هذه النتائج، فإسرائيل التي تقف الآن على ابواب انتخابات عامة، يحاول زعماؤها السياسيون إرسال رسائل انتخابية للجمهور من خلال تصريحات غاية في التشدد تجاه التعامل مع حكومة حماس المستقبلية. فقد عودتنا تجارب الانتخابات الإسرائيلية السابقة أن الأسلوب المتشدد في التعامل مع الفلسطينيين هو البند الأول في البرنامج السياسي الانتخابي لأي حزب أو شخصية إسرائيلية تنوي الوصول إلى سدة الحكم. لذلك فإننا مقبلون على تصاعد الخطوات الإسرائيلية العملية الرافضة لسلطة حماس، ونقف أمام تشدد إسرائيلي مستقبلي في انتظار ما ستسفر عنه نتائج الإنتخابات الإسرائيلية يوم 28/3/2006. أولاً: حكومة حماس ليست شريكاً فور إعلان فوز حماس في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية، دعا القائم بأعمال رئيس الحكومة إيهود أولمرت، وزراء حكومته ورؤساء الأجهزة الأمنية لعقد جلسة مشاورات خاصة، خرج أولمرت بعدها ليعلن أن "السلطة الفلسطينية بقيادة حماس ليست شريكا"، وانه إذا تشكلت حكومة برئاسة حماس أو بمشاركتها ستصبح السلطة داعمة للإرهاب، وقال إن "العالم وإسرائيل سيتجاهلون هذه الحكومة لجعلها بدون أي شأن يذكر"[2]. بهذا التصريح المقتضب، رسم إيهود أولمرت الخطوة العريضة لسياسة إسرائيل في التعامل مع حكومة فلسطينية برئاسة حماس، والتي تقوم على مقاطعة ورفض إسرائيل للتعامل مع هذه الحكومة، ودعوة لتشكيل حلف دولي رافض ومقاطع لهذه الحكومة حتى تلبي سلسلة طويلة من الاشتراطات والإملاءات الإسرائيلية المصاغة أوروبياً ودولياً، وفي حالة رفض حماس لتلبية هذه الشروط يفرض حصار دولي محكم عليها وبخاصة حرمانها من المساعدات المالية الخارجية بالتوازي مع وقف التحويلات الإسرائيلية لأموال الضرائب الفلسطينية. وكان أولمرت قد طالب بناء على توصية من المستوى الأمني بعدم الإسراع في الرد والتصرف بصبر وانتظار التطورات في الجانب الفلسطيني، وخلال الجلسة كان هناك شبه إجماع بأن لا مصلحة لإسرائيل في انهيار السلطة الفلسطينية قريباً، وأن إسرائيل ستواصل تقديم الخدمات للسكان الفلسطينيين. وعلى الصعيد الخارجي أجرى إيهود أولمرت عدة اتصالات مع عدد من قادة العالم بهدف تشكيل جبهة دولية لمقاطعة حكومة فلسطينية برئاسة حماس. وكذلك فعلت وزيرة الخارجية تسيفي ليفني، التي أجرت عددا من الاتصالات الهاتفية مع نظرائها في ألمانيا والنمسا، ومع وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، وفي لقائها مع مبعوث الإتحاد الأوروبي "مارك أوتي" طالبت ليفني الإتحاد بموقف واضح وقاطع، يوضح أنه لن تكون هناك تفاهمات أوروبية مع حكومة "إرهاب". في هذه الأثناء عادت لهجة إسرائيل إلى أسلوب التهديد والوعيد،حيث أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز تهديدات بأن "قيادة حماس ليست محمية من الإغتيالات، إذا واصلت ممارسة الإرهاب حتى لو كانت تجلس في السلطة على حد تعبيره، وأكد موفاز للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي مساء 28/1/2006، أن إسرائيل لن تفاوض حركة حماس لأنها تنظيم إرهابي، وقال كل من يقف على رأس تنظيم إرهابي ويواصل تنفيذ العمليات ضد إسرائيل لن يكون محمياً"[3]. ثانياً: ائتلاف دولي ضد حماس واصلت إسرائيل العمل بوتيرة متسارعة لتشكيل ائتلاف دولي ضاغط لمنع الاعتراف بحكومة حماس المستقبلية، حيث استهل أولمرت هذه الخطوة بالتخاطب مع الرئيس المصري حسني مبارك ومع الملك عبد الله الثاني ملك الأردن، ومع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، ومع رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير، ومع الرئيس الفرنسي جاك شيراك. وأوضح لهم بأن إسرائيل لن تتمكن من التعاون مع حكومة تشكلها حماس. وأصر أولمرت خلال الاتصالات على وضع ثلاثة شروط على حماس تنفيذها كمدخل للتعامل معها، وهي نزع سلاح حماس ومنظمات "الإرهاب"، وإلغاء ميثاق حماس الداعي إلى إبادة دولة إسرائيل، وقبول كل الاتفاقات الموقعة وكل الالتزامات التي اتخذتها السلطة على عاتقها. وجاء إصرار أولمرت على الشرط الأخير ليعكس التخوف الإسرائيلي الذي طرحته محافل قانونية، من أن سلطة فلسطينية برئاسة حماس كفيلة بالتنكر لاتفاقات أوسلو كونها وقعت بين إسرائيل وم.ت.ف. وكان أولمرت قد حدد الشخصيات الحكومية المسموح لها بالرد على نتائج الإنتخابات في السلطة الفلسطينية، وذلك في محاولة لبث رسالة موحدة من جانب حكومة إسرائيل، وبينهم شمعون بيرس الذي قال أثناء مشاركته في المؤتمر الاقتصادي في دافوس أنه "لا يؤيد إجراء اتصالات مع حماس؟ في حالة هجر الحركة طريق الإرهاب"، وقال "فقط إذا تراجعت حماس عن تهديداتها للمس بإسرائيل سنكون مستعدين للمفاوضات وعلى إسرائيل أن ترى إلى أين تسير حماس "عائدة إلى مسار العنف والإرهاب، أم إلى الأمام إلى طريق السلام، وهم لم يتخذوا القرار بعد، فهم لم يكونوا مستعدين لمثل هذا النصر"[4]. وقد وضع انتصار حماس في الإنتخابات، القيادة السياسية الإسرائيلية أمام معضلة أخرى: هل تواصل تحويل أموال الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، وهي المبالغ التي تجبيها إسرائيل شهرياً من البضائع التي تصل إلى السلطة الفلسطينية؟ حيث تعالت الدعوات من الحكومة والمعارضة للإمتناع عن تحويل هذه الأموال، أما في جهاز الأمن فهناك تأييد لاستمرار تحويل هذه الأموال كي لا يؤدي الأمر إلى انهيار المؤسسات المدنية في السلطة، وقد حولت إسرائيل المبالغ عن شهر يناير وقالت إنها لن تحول مبالغ جديدة في انتظار تقييم التطورات. وتدرك إسرائيل، وهي في طريقها لتجنيد ائتلاف دولي ضاغط ضد حماس، أن العالم لا يؤيد بحرارة خطوات عقابية تمس بحياة المدنيين، لذلك فهي سوف تبذل كل ما في وسعها لتبرير خطواتها العقابية التي تنوي اتخاذها بعد تشكيل الحكومة الفلسطينية وإتمام عقد التحالف الدولي والذي بدأ بتشكيل أعضاء الرباعية الذين اجتمعوا في لندن 30/1/2006 جبهة موحدة ضد حماس حيث خرجوا برسالة مفادها "المشاركون في حكومة فلسطينية مستقبلية يجب أن يمتنعوا عن العنف، وان يعترفوا بإسرائيل، وبخارطة الطريق، وباتفاقات سبقت"، وهي شروط إسرائيلية تبنتها الرباعية، فيما يشبه أنه أول انتصار دبلوماسي إسرائيلي في المعركة ضد حماس. وقال كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة، عقب الإجتماع "إذا قبلت حماس قواعد اللعبة فنستطيع العمل معها"[5]. وفي هذا التصريح من الإشارة ما يكفي للفهم أن على حماس إذا أرادت أن تكون مقبولة دوليا، أن تلبي الشروط الإسرائيلية المسبقة. وقد ذهبت المستشارة الألمانية أنجيلا ماركل أبعد من ذلك، خلال لقائها مع الرئيس ابو مازن، حيث ربطت المساعدات الألمانية للسلطة بتغيير حماس، سياستها "لست قادرة على أن أتخيل دعماً للسلطة التي لا تعترف بإسرائيل، وتستعمل العنف ولا تحترم الاتفاقات التي وقعت عليها"[6]. ثالثاً: الموقف الروسي بداية التصدع فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إسرائيل والولايات المتحدة، باتخاذه موقفاً يشذ عن باقي أعضاء الرباعية ويعلن بأنه ينوي دعوة قادة حماس لزيارة موسكو دون قيد أو شرط. وكان بوتين قد صرح، فيما يشبه أنه خروج عن تحالف دولي ضاغط اعتقدت إسرائيل أنها أحكمته على حماس (يوم الخميس 9/2/2006)، أنه يعتزم دعوة زعماء حركة حماس لزيارة موسكو. وقال بوتين "تجري روسيا اتصالات مع حماس، وتعتزم توجيه الدعوة لقيادة هذه المنظمة لزيارة موسكو"، واضاف بوتين "لم نعتبر حماس منظمة إرهابية، واليوم يتعين أن نعترف بأن حماس وصلت للسلطة نتيجة لانتخابات شرعية، ويتعين احترام اختيار الشعب الفلسطيني". واضاف "لديّ قناعة راسخة بأن إحراق جميع الجسور في السياسة هو أسهل ما يمكن فعله ولكن لا مستقبل له، واستناداً إلى هذه الفكرة لم نتعجل إلى تسمية أي تنظيم بأنه إرهابي"[7]. وقد جاء رد الفعل الإسرائيلي غاضباً على هذا التصريح، وطالبت إسرائيل بعدم إجراء أي اتصال مع حركات قالت أنها إرهابية وتسعى لتدمير إسرائيل. وقال مارك ريغيف المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إنه "يتعين ألا تُجرى محادثات مع حماس حتى تعترف بحق إسرائيل في الوجود وتنبذ الإرهاب وتقبل بعملية السلام في الشرق الأوسط"، فيما وصف وزير المواصلات مئير شطريت تصريح بوتين بأنه "فضيحة دولية وطعنة في ظهر إسرائيل"[8]. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أعربت عن تحفظها ومعارضتها لتصريحات بوتين، فيما أكدت فرنسا أنها تساند "مد اليد" الروسية لحماس مع مطالبة الحركة بإلقاء سلاحها. صدع آخر أصاب سور الإجماع الدولي بتصريح الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان قبل لقائه وزيرة الخارجية الإسرائيلية "تسيفي ليفني"، الذي قال فيه "لا ينبغي الشروع في حسم الحكم على حماس، ويجب إعطاءهم المزيد من الوقت لتنظيم أنفسهم، بالتأكيد كانت هناك حالات لحركات مسلحة تحولت إلى أحزاب سياسية"[9]. رابعًا: خطوات عملية وإزاء تخوفها من انهيار التحالف الدولي ضد حماس، اتجهت اسرائيل إلى الإسراع في إقرار خطوات عملية للتعامل مع الواقع الجديد، كان قد جرى مناقشتها وتداولها فور إعلان فوز حماس في الإنتخابات. وتمهيدا لإقرارها عُقدت ثلاث جلسات تشاور ماراثونية في "15، 16، 17 فبراير"، لمناقشة التعامل الإسرائيلي مع المجلس التشريعي الجديد والحكومة الفلسطينية القادمة وقد شارك في هذه المناقشات بالإضافة لرئيس الوزراء بالوكالة كل من وزيرة الخارجية تسيفي ليفني ووزير الدفاع شاؤول موفاز وعاموس جلعاد من وزارة الأمن، وغيورا أيلاند من المجلس للأمن القومي، وممثلون عن الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك) والموساد. وعقب هذه المناقشات تم بلورة جملة من المقترحات وعرضها على الحكومة يوم الأحد 19/2/2006، حيث صادقت الحكومة عليها وهي في مجملها خطوات انتقامية، يأتي في مقدمتها فرض حصار أمني – اقتصادي على الفلسطينيين، وعدم تحويل المستحقات المالية للسلطة الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل من التجار والعمال الفلسطينيين، والحد من حرية التنقل بين غزة والضفة الغربية، وبذل الجهود اللازمة لمنع وصول أموال إلى السلطة الفلسطينية من إيران والحركات الإسلامية، منع دخول العمال الفلسطينيين من غزة إلى إسرائيل، وتشمل هذه الخطوات أيضاً انتهاكات أخرى، منها تجميد كل المشاريع الفلسطينية لبناء ميناء وإعادة إعمار المطار وتطوير المعابر، والإسراع في تحويل معبري كارني وإيرز إلى معابر دولية. وفي محاولتها لمنع شجب دولي لخطواتها العقابية ضد الفلسطينيين، أجرت إسرائيل اتصالات دبلوماسية مكثفة مع جهات دولية لتجنيدها إلى جانبها في الأمم المتحدة لمنع المنظمة الدولية من اتخاذ قرارات تدين هذه الخطوات، ونقلت صحيفة هآرتس عن مصادر دبلوماسية إسرائيلية في نيويورك قولها: "إن إسرائيل تعرف بأن فرض عقوبات خاصة في المجال الاقتصادي وتهديد حياة المدنيين يثير انتقاداً وشجباً من قبل المنظومة الدولية، وتدعي إسرائيل في اتصالاتها أنها ستميز بين الخطوات السياسية والإحتياجات الإنسانية". خامساً: فوز حماس يسهل إجراءُ أحادي الجانب إن مصطلح "ليس هناك شريك" الذي تستخدمه إسرائيل عندما تريد الإقدام على خطوات أحادية الجانب في الأراضي الفلسطينية، أو عندما تريد أن تتهرب من تنفيذ ما اتفق عليه مع الفلسطينيين من انسحابات، دون انتقاد من الولايات المتحدة الأمريكية أو من اللجنة الرباعية، عاد الآن بقوة ليكون مسوغاً قوياً لما ستقدم عليه إسرائيل من خطوات سياسية أحادية الجانب، تم تداولها وإقرارها بل أخذ الموافقة الأمريكية عليها، فإذا كانت إسرائيل قد ادعت في عهد الرئيس عرفات أن "ليس هناك شريك فلسطيني يمكن التحدث معه، وأقدمت بعد ذلك على وقف الاتصالات مع أبو مازن تحت ذريعة أنه لا يفعل ما فيه الكفاية لوقف ما تسميه بالإرهاب، وهي في ذلك كانت تمهد لخطوات الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة وشمال الضفة، وتسويغ استمرار بنائها للجدار الفاصل في الضفة الغربية والقدس. وعليه فإنها لن تجد صعوبة في تمرير هذا المصطلح (ليس هناك شريك) في ظل حكومة برئاسة حماس التي تضع في اولى درجات سلم برنامجها عدم الاعتراف بإسرائيل ولا بأي اتفاق مجحف تم توقيعه معها. فهذه فرصة سياسية لن تجرؤ أي حكومة إسرائيلية مهما اختلفت ألوانها على تفويتها في ظل موقف دولي داعم ومتفهم لموقف إسرائيل. لذلك فإن الفترة الوجيزة القادمة التي ستعقب تشكيل حماس للحكومة ستشهد على الأرجح زيادة الضغط السياسي الإسرائيلي والأمريكي والأوروبي على حماس من جهة، وإقدام إسرائيل على تنفيذ خطوات أحادية الجانب على الأراضي في الضفة الغربية من جهة أخرى، في مقدمتها إنهاء العمل في الجدار الفاصل، وترسيم حدود إسرائيل الأمنية المستقبلية بما تشمله من ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة في معاليه ادوميم، وأرئيل وغوش عتصيون والاحتفاظ بغور الأردن، وإسرائيل لا تخفي نواياها في هذا الإتجاه، فقد اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز أن فوز حماس في الإنتخابات الفلسطينية سيشكل حافزاً لإسرائيل لاتخاذ إجراء أحادي الجانب يشمل إخلاء مناطق في الضفة الغربية، سيتم تنفيذه في غضون هذا العام. وحسب اعتقاد موفاز، فإن الصورة ستتضح خلال هذا العام، حيث لن يكون بإمكان حماس العودة إلى مسار خارطة الطريق، وان هذا الأمر سيوجب على إسرائيل أن تقدم على تنفيذ الخيار الخاص بها الذي سيتوفر له إجماع واسع لدى الجمهور الإسرائيلي، وتحقق إسرائيل من خلاله ما يعتقد موفاز أنه واقع أسهل على إسرائيل، ويضمن صياغة جديدة لخريطة استيطان تقوم على القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية وتعزيز الكتل الاستيطانية، الحفاظ على غور الأردن مقابل إخلاء مستوطنات معزولة، والانسحاب من الأراضي الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية. وأن هذه الخطوة ستحظى بتأييد دولي كما حدث عندما تم إخلاء قطاع غزة، وسيكون في المستقبل أفضل قاعدة لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين عندما يريدون ذلك. سادساً: المعارضة: لا للتفاوض مع حماس أجمع أقطاب المعارضة الإسرائيلية من اليمين واليسار على عدم التفاوض مع حماس، فقد أعلن عمير بيرتس زعيم حزب العمل "أن إسرائيل لن تتفاوض مع حماس"، زاعماً أنها تدعو إلى إبادة إسرائيل، ودعا بيرتس إلى انتظار ما سيحدث في المناطق الفلسطينية بعد الإنتخابات، وفي الوقت ذاته تعزيز الوسائل الأمنية حول قطاع غزة واكمال بناء الجدار الفاصل، وتوقع بيرتس حدوث جمود سياسي خلال السنوات القادمة، فيما طالب رئيس حزب الليكود بنيامين نتنياهو باحتجاز أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل من الفلسطينيين والامتناع عن تحويلها إلى السلطة الفلسطينية. لقد أدخلت نتائج الإنتخابات الساحة السياسية الإسرائيلية في حالة من عدم الاتزان، وأدت إلى موجة من تبادل الاتهامات بالنسبة للجهة المسؤولة عن صعود حماس وانهيار فتح، والتعبير الأكثر تكراراً هو "قلنا لكم"، وهو متداول من اليمين واليسار على حد سواء، فزعماء اليسار يقولون إن التصفيات الإسرائيلية أضعفت نظام أبو مازن، وفي اليمين يقولون لقد حذرناكم أن فك الارتباط سيؤدي إلى صعود الإرهاب. يقول رئيس المفدال زبلون اورليف إن "انتصار حماس هو نتيجة مباشرة لفك الارتباط، فالجمهور الفلسطيني يعترف بذلك، بأن إرهاب الإنتحاريين وصواريخ القسام هي التي أقنعت حكومة كديما بفك الارتباط، واقتلعت اليهود من غوش قطيف"[10]. وبشكل استثنائي وجد رئيس الليكود بنيامين نتنياهو ورئيس ميرتس- ياحد يوسي بيلين نفسيهما، وهما العدوان اللدودان في السياسة الإسرائيلية، متفقين على شيء واحد وهو "أن الانسحاب أحادي الجانب من غزة هو السبب في تعزيز حماس"، وقال بيلين "نحن انتقدنا بشدة الانسحاب الأحادي الجانب، وقلنا إن الأمر سيعزز حماس ويمس بالبراغماتيين"[11]. سابعاً: الجمهور يؤيد التفاوض مع حماس الجمهور الإسرائيلي يؤيد التفاوض مع حماس شرط إقدام الأخيرة على العدول عن رغبتها في إبادة إسرائيل، فقد أيد 40% من الجمهور اليهودي إجراء مفاوضات مع حماس بعد تشكيلها الحكومة الفلسطينية وإعلانها العدول عن رغبتها في إبادة إسرائيل، فيما قال 29% إنهم مع قطع كل اتصال مع حكومة حماس واستئناف الإغتيالات في صفوف حماس. وحسب الاستطلاع الذي نشرته معاريف في 27/1/2006، رأى 27% من الجمهور اليهودي أنه ينبغي مواصلة التصرف كالمعتاد واستئناف المفاوضات حسب خارطة الطريق الأمريكية. وفي استطلاع آخر للرأي نشرته يديعوت أحرونوت 29/1/2006، قال 48% من الجمهور اليهودي أنه يجب التفاوض مع حماس في حال شكلت الحكومة الفلسطينية القادمة، و43% قالوا أنه يجب قطع كل العلاقات مع السلطة. هذه النتائج تشير إلى أنه، خلافاً لردود الساسة في إسرائيل وفي الخارج، يبدو أن فوز حماس لم يخلق حالة من الذعر لدى الجمهور اليهودي رغم أن الأغلبية تعتقد أن احتمال التوصل إلى اتفاق سلام مع حكومة فلسطينية برئاسة حماس أصبح ضئيلاً جداً ومعدوماً. ومع ذلك يعتقد نصف الجمهور الإسرائيلي حسب مقياس السلام لشهر يناير 2006، أن حماس ستعدل الآن عن مشاركتها في العمليات الإرهابية، فيما يتمسك النصف تقريبا برأيهم أنه ينبغي إدارة مفاوضات مع حكومة فلسطينية تشكلها حماس لأنها أصبحت الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وحسب الإستطلاع، خفض فوز حماس سقف التفاؤل المنخفض أصلاً في إمكانية التوصل إلى سلام دائم الفلسطينيين، حيث قال 83% من الجمهور اليهودي إنهم لا يعتقدون أن هناك احتمالاً لذلك. كما طرأ انخفاض ملحوظ على نسبة المؤيدين في الجمهور الإسرائيلي اليهودي لإنشاء دولة فلسطينية، ففي شهر كانون أول/ديسمبر أيد 67% من هذا الجمهور قيام دولة فلسطينية مستقلة، واليوم بعد فوز حماس انخفضت هذه النسبة إلى 55%. والشيء الملفت في نتائج هذا الإستطلاع أنه وبرغم الإجماع الواسع على أنه لا يوجد احتمال حقيقي للتوصل إلى اتفاق سلام مع حكومة ترأسها حماس، يعتقد 43% من الجمهور اليهودي أن على إسرائيل أن تدير تفاوضاً سياسياً مع حكومة تنشئها حماس، مقابل معارضة 53%. وبالنسبة لقضية تحويل أموال الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، فإنه خلافاً لموقف حكومة إسرائيل المتردد، أيدت أغلبية كبيرة في الجمهور 69% الامتناع عن تحويل الأموال للسلطة الفلسطينية، مقابل 22% قالوا عكس ذلك. وأشار الاستطلاع إلى أنه بخلاف القضايا المختلف فيها والمتعلقة بكيفية تعامل حكومة إسرائيل مع حكومة فلسطينية ترأسها حماس، فإنه يوجد تأييد واسع 75.5% لدى الجمهور اليهودي في إسرائيل، بأنه يجب على إسرائيل أن تقرر مصيرها وحدودها بنفسها بإنهاء سريع لبناء جدار الفصل. الخاتمة لقد أدخلت نتائج الإنتخابات التشريعية الفلسطينية، الساحة الإسرائيلية في حالة من الذهول تعددت معها السيناريوهات الإسرائيلية المتشائمة إزاء ما سيؤول إليه الوضع داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها. ويبدو بوضوح أنه لا يوجد حتى الآن خلاف في الساحة السياسية الإسرائيلية بأن فوز حماس في الإنتخابات قد يدفن إلى الأبد التصور القائل بأنه يمكن إنهاء الصراع مع الفلسطينيين من خلال المفاوضات. فهل كانت هذه النتائج بمثابة فرصة من السماء لن تفوتها إسرائيل لتنفيذ خطتها أحادية الجانب والإفلات النهائي من قيود خارطة الطريق وترسيم حدودها وفق ما تسميه مصالحها القومية وفي مقدمتها الأمن والمياه ويهودية الدولة، وما يتبع ذلك من حشر الفلسطينيين في الزاوية مع كل ما يحتويه من بذور مواجهة قادمة؟ أم أن تغيراً استراتيجياً سيطراً على السياسة الإسرائيلية وتقتنع بالتفاوض مع حماس التي هي حسب بعض التقديرات الإسرائيلية الأقدر على صنع السلام مع إسرائيل وحفظه. إن الشارع الإسرائيلي بكافة أطيافه وقد هزه هذا التغير المفاجئ في الجانب الفلسطيني، بدأ يطرح عدة أسئلة تترافق مع المستجدات على الساحة الفلسطينية، بحيث سيكون لزاماً على الأجهزة الأمنية والقيادة السياسية الإسرائيلية تقديم الإجابات عنها، ويأتي في مقدمتها، هل ستقدم حماس على تغيير سياساتها؟ هل سيتحول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى حرب دينية، وهل سيشكل هذا الفوز حافزاً للمقاومة الفلسطينية أم كابحاً لها؟ وأسئلة كثيرة ستطرح في المرحلة القادمة وهي تحتاج إلى إجابات، وهي في الغالب لن تكون إجابات قطعية بقدر ما تكون خاضعة لتأثيرات سياسية وإعلامية. الهوامش: [1] موقع عرب 48، 29/1/2006. [2] المرجع السابق. [3] يديعوت أحرنوت، 29/1/2006. [4] المرجع السابق. [5] معاريف، 31/1/2006. [6] المرجع السابق [7] عرب 48/ الجمعة، 10/2/2006. [8] عرب 48/ الخميس، 9/2/2006. [9] المرجع السابق. [10] معاريف، 27/1/2006. [11] المرجع السابق.
|
|