إسرائيل تخلي وتهدم

 

عاطف المسلمي

حتى زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس الأخيرة للأراضي الفلسطينية وإسرائيل، 18-20/6/2005، لم تكن حكومة إسرائيل قد بلورت موقفاً واضحا ومحدداً من مصير المنازل والمنشآت العامة والبنى التحتية المقامة في المستوطنات المنوي إخلاؤها سواءً في قطاع غزة أو شمال الضفة الغربية. وحتى قرار الحكومة الإسرائيلية 19/2/2005، بتخويل رئيس الوزراء ووزير الدفاع إصدار أوامر الإخلاء بعد مصادقة الكنيست في 16/2/2005 بأغلبية كبيرة على قانون الإخلاء والتعويضات، لم يتم التطرق بشكل جدي لهذه القضية. لكنه ومع اقتراب التاريخ المحدد للإخلاء (منتصف آب القادم) كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مصير هذه المنشآت، حيث برز التباين في المواقف بين عدة جهات سياسية وأمنية، وإن كان الرأي الغالب لدى كثير من الإسرائيليين سواءً على المستوى الرسمي أو غير الرسمي هو عدم جواز تكرار تجربة إخلاء يميت في نيسان 1982، حيث قامت الجرافات الإسرائيلية بتحويل بيوت المستوطنة إلى كومة من الحجارة، وذلك ليس بهدف الإتاحة للفلسطينيين الإستفادة من هذه المنشآت، بل خشية المس بصورة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي إذا ما أقدمت على هدم هذه المنشآت أمام كاميرات التلفزة العالمية.

وبدون التنسيق مع السلطة الفلسطينية لن تكون إسرائيل قادرة على تنفيذ الإخلاء بشكل سليم سواءً هدمت أم لم تهدم، ففي كلتا الحالتين تحتاج إسرائيل بدرجة كبيرة إلى التنسيق على مستوى عال مع السلطة الفلسطينية. هذا التنسيق الذي امتنع رئيس الوزراء آرئيل شارون الحديث عنه حتى وقتٍ قريب، وقد حاول قصره في أكثر من مناسبة على النواحي الأمنية أثناء فترة الإخلاء، دون التطرق لعدة قضايا حيوية مرتبطة بالإخلاء أهمها، قضية المعابر، ومصير المنشآت المقامة في المستوطنات. وعلى ما يبدو فإن قراراً بهدم أو عدم هدم هذه المنشآت لن يصدر عن الحكومة الإسرائيلية إلا عشية تنفيذ الإخلاء وذلك لحسابات إسرائيلية محضة، رغم تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بأن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي قد اتفقنا من حيث المبدأ على هدم المنازل في المستوطنات. وحتى يحين موعد الإخلاء ستطرح سيناريوهات وتصدر تصريحات عن مصير تلك المنشآت.

أولاً: الكنيست تصادق والحكومة تقرر الإخلاء

في السادس عشر من شباط 2005، صادقت الكنيست في تصويت تاريخي وبأغلبية كبيرة (64 نائباً مقابل معارضة 40) بالقرائتين الثانية والثالثة على قانون تطبيق خطة فك الإرتباط عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، المعروف باسم قانون (الإخلاء- التعويض)، وقد صوت إلى جانب القانون 23 نائباً من الليكود، 19 من العمل، 13 شينوي، 6 من ياحد، 2 من شعب واحد، النائب يوسف برتيسكي، والمعارضون 17 نائبا من الليكود، 11 نائبا من كتلة شاس، 6 من الإتحاد الوطني، 6 من المفدال. أما أعضاء الكتل العربية (8 نواب) فقد امتنعوا عن التصويت. وفي أعقاب هذه المصادقة، قررت الحكومة في 19/2/2005 تخويل رئيس الوزراء ووزير الدفاع إصدار أوامر الإخلاء لأربع مجموعات من المستوطنات تشمل جميع مستوطنات قطاع غزة، وبعض المستوطنات شمال الضفة الغربية، حيث سيتم إخلاؤها على مراحل تبدأ بإخلاء مستوطنات موراغ، نستاريم، كفار داروم، يليها إخلاء مستوطنات غزة (ايلي سيناي، دوغيت، نيسانيت) في نهاية تطبيق خطة فك الإرتباط.

ومع انه لم يتبق سوى شهر فقط حتى إعطاء اشارة الإخلاء، فإن الحكومة الإسرائيلية لم تبلور بعد موقفاً من مصير المنازل، المنشآت، المعدات الزراعية والصناعية والمباني العامة. ويدعون في إسرائيل بأن الفلسطينيين أنفسهم غير معنيين بالمباني القائمة في المستوطنات، وانهم يفضلون البناء الرأسي لسكان المخيمات. وأن السلطة الفلسطينية تخشى أن تتحول الفيلات في المستوطنات إلى ميادين معركة بين التنظيمات التي ستسعى إلى التسابق للسيطرة على الأملاك المهجورة. لذلك فإنه إذا لم يكن الفلسطينيون يريدون هذه المنازل فليهدموها بأنفسهم، وانه محظور على الحكومة الإسرائيلية أن تترك هناك أرضاً محروقة. فصورة الجرافات الإسرائيية وهي تعمل على تحويل هذه المباني إلى ركام سوف لن يزينها آلاف الكلمات في وسائل الإعلام لشرح الأسباب، وستكون بمثابة تشويه لسمعة إسرائيل الدولية ونقطة سوداء في طريق الثقة بين الشعبين، ناهيك عن أن تكلفة هدم هذه المنشآت قد تتجاوز 80 مليون شيكل. بالإضافة إلى الصعوبة التي ينطوي عليها إزالة آلاف الأطنان من المباني المهدمة. وفي سبيل الخروج من هذه المعضلة، فإن التنسيق مع الفلسطينيين أصبح مطلباً ضرورياً بالرغم من محاولات رئيس الوزراء الإسرائيلي القفز عن هذه النقطة.

ثانياً: التنسيق مع الفلسطينيين

1- تحفظ إسرائيلي

حتى فترة وجيزة لم يرد على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون كلمة تنسيق الإخلاء مع الفلسطينيين في أي من تصريحاته، إلا انه وبناءً على تقديرات كبار في الجيش الإسرائيلي ورغبة أمريكية واضحة، أشار شارون ولأول مرة في 15/2/2005، إلى أن إسرائيل يمكن أن تنسق فك الإرتباط مع الفلسطينيين. وقال شارون في استعراض أمام صحافيين أجانب، "إن إسرائيل بدأت تتحدث عن تنسيق فك الإرتباط مع الفلسطينيين، كنت أود أن ننسق الإنسحاب من غزة، هذا مهم لنا كي لا تكون المنطقة التي نغادرها بيد حماس والجهاد، بل بيد السلطة الفلسطينية، وفضلاً عن ذلك، كي يتم الإنسحاب بهدوء"(1).

وبالفعل منذ منتصف (فبراير- شباط) الماضي، بدأت اتصالات رسمية فلسطينية-إسرائيلية للتباحث في تنسيق خطة الأخلاء، وقد شرحت إسرائيل خلال هذه الإتصالات مطلبها، بأن يسيطر الفلسطينيون على المناطق الفاصلة أثناء قيام الجيش الإسرائيلي بالإخلاء، كي يضمنوا ألا تحاول حماس ومنظمات أخرى المس بقوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين أثناء الإخلاء، حتى يكون بوسع الجيش الإسرائيلي تركيز قواته لتنفيذ عملية الإخلاء بدل الإنشغال بمواجهة محتملة مع تنظيمات اسرائيلية. ومقابل المساعدة الفلسطينية ستعمل إسرائيل على النقل المرتب (المنظم) لهذه المناطق إلى يد السلطة الفلسطينية. ويقدرون في الجيش الإسرائيلي بأنه إذا ما تم إخلاء القطاع بتنسيق مع الفلسطينيين، فإنه سيكون من الممكن استكمال العملية في غضون نحو شهر بدل ثلاثة اشهر كما كان مخططاً أصلا للإنسحاب من طرف واحد.

وبسبب عدم وضوح الرؤية حول مصير المباني والمنشآت في المستوطنات المنوي إخلاؤها تحولت هذه القضية إلى شبه معضلة على المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. فمن جهة لم يرتق التنسيق مع الفلسطينيين إلى الحد المطلوب الذي يؤمن اتخاذ قرار بشأن هذه المنشآت، ومن جهة أخرى غياب التصور النهائي لمصير هذه المنشآت. فحسب تقديرات إسرائيلية، تخشى السلطة الفلسطينية من عدم القدرة على إيقاف المجموعات الحاشدة التي ستتجه إلى منازل المستوطنين فور إخلائها في مشهد، سيصور الفلسطينيين باللصوص عديمي الثقافة والحضارة، لذلك يفضل الفلسطينيون أن تقوم حكومة إسرائيل بتدمير كل شيء بنفسها. من هنا فإنه يفضل لإسرائيل من الناحية الدعائية، أن تبقي على هذه المنازل التي يكلف تدميرها مبالغ طائلة(2).

إن مسألة ما العمل بمباني المستوطنات في شمال الضفة الغربية تحدث هي أيضا تجاذبات عديدة، فهي خلافاً لمستوطنات قطاع غزة التي تقرر تسليمها كاملة إلى الفلسطينيين بعد الإنسحاب، فإنها ستبقى بعد إخلائها تحت المسؤولية الأمنية الإسرائيلية حالها حال باقي مناطق الضفة الغربية.

في ضوء هذه المعضلة جرى في الآونة الأخيرة نقاش جدي حول إمكانية أن تسلم مباني المستوطنات التي ستخلى في شمال الضفة الغربية (غينيم-كديم-حومش-سانور) إلى الفلسطينيين ولا تهدم، ولكن بشرط أن يلتزم الفلسطينيون باستخدامها كمعسكرات لرجال الشرطة وألا يقيموا فيها مناطق سكنية.

وبحسب هذه الخطة "سيكون بوسع الشرطة الفلسطينية السكن في فيلات المستوطنين ولكن بدون أبناء عائلاتهم"(3). وحتى هذه اللحظة، لم يقرر رئيس الوزراء آرئيل شارون ووزير الدفاع شاؤول موفاز رسمياً ما العمل بالمنازل التي ستخلى في مستوطنات شمال الضفة الغربية رغم تقدم الجيش بعدة توصيات.

الإمكانية الأخرى التي طرحت هي عدم تسليم كل المباني للفلسطينيين، وفي مثل هذه الحالة ستصبح هذه المباني "كمدن اشباح" الأمر الذي قد يدفع المستوطنين القيام بمحاولات لإحتلال هذه المباني من جديد، وعقب ذلك سيضطر الجيش الإسرائيلي إلى وضع حراسة مشددة عليها على مدى فترة طويلة، وهذا ما لا يريده الجيش، أو انه غير معني به.

وإذا كانت إسرائيل ممثلة برئيس وزرائها وحتى وقت قريب، تصر على أن فك الإرتباط هو قرار إسرائيلي محض ويخضع في المقام الأول لمصلحة إسرائيل الأمينة العليا، إلا انه وبناءً على الصعوبات اللوجستية على الأرض والتعقيدات الأمنية التي ستصاحب عملية الإخلاء وبناءً على ضغوطات أمريكية، وجدت إسرائيل نفسها ملزمة بالتنسيق مع الفلسطينيين، وان كانت تحاول قصر هذا التنسيق فقط على النواحي الأمنية. وفي هذا الصدد تعهدت إسرائيل وبعد ضغط أمريكي أن تنقل إلى الفلسطينيين (بداية يونيو - حزيران) كل المعلومات المتعلقة بالبنى التحية القائمة في غوش قطيف وشمال قطاع غزة، والمقصود هنا خرائط ورسومات لشبكات المياه والكهرباء والطرق والمباني العامة والمنازل التي يستخدمها المستوطنون الذين يقيمون في مستوطنات القطاع. وقد اشتكى الجانب الفلسطيني وعلى رأسه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن، ومساعدوه بأنه على الرغم من الحديث الإسرائيلي عن تنسيق مع الفلسطينيين، فإن إسرائيل لا تنقل إلى الفلسطينيين المعلومات الكافية لوضع تصوراتهم عن كيفية التعامل مع المناطق التي سيتم إخلاؤها. وبعد ضغط أمريكي سلمت إسرائيل الفلسطينيين في 6/6/2005، خرائط البنى التحتية في غوش قطيف. وبحسب قرار الحكومة الإسرائيلية، قام مجلس الأمن القومي بإعداد خرائط وبيانات تفصيلية دقيقة للبنى التحتية، حيث سيتم نقلها بشكل منظم إلى الفلسطينيين عبر الأجهزة الأمنية. وترى المحافل الأمنية في إسرائيل أن هذا من شأنه أن يخلق تنسيقاً في كل ما يتعلق بفك الإرتباط دون تشكيل خطر على دولة إسرائيل.

2- ماذا بشأن الفلسطينيين؟

الأسئلة التي تدور حول تنفيذ خطة فك الإرتباط لا تزال مفتوحة وهي لا تقتصر على الجانب الإسرائيلي فقط، بل تمتد أيضا إلى الجانب الفلسطيني، فاذا كانت إسرائيل حتى هذه اللحظة لم تجزم في عدة قضايا تتعلق بفك الإرتباط، فإنه لم يصدر عن الجانب الفلسطيني الرسمي حتى الآن أي برنامج أو خطة تتضمن خطوات فلسطينية واضحة للتعامل مع قضايا الإنسحاب الإسرائيلي. وحسب ادعاء صحيفة يديعوت احرونوت الإسرائيلية، فإن وثيقة وصلت إليها تبين أن الفلسطينيين لا يجلسون مكتوفي الأيدي وينتظرون.

وتدعي الصحيفة الصادرة في 31/5/2005. أن السلطة الفلسطينية تعتزم الإعلان عن كل مستوطنات قطاع غزة كمناطق مغلقة بعد الإنسحاب، وذلك منعاً لتدفق الجماهير إليها. كما أن السلطة تعتزم قريباً إطلاق حملة إعلامية واسعة لإعداد السكان الفلسطينيين في القطاع لفك الإرتباط، ودعوتهم إلى الإمتناع عن القيام بأعمال شغب أو الوصول إلى المناطق التي سيتم إخلاؤها.

ولكن القسم الأثر تشويقاً في هذه الوثيقة التي تُجمل سلسلة لقاءات عقدتها محافل رسمية إسرائيلية مع نظرائها في السلطة الفلسطينية، هو الخطط الفلسطينية لإستغلال المناطق المُخلية. فحسب هذه الوثيقة "فإن المستوطنات الإسرائيلية في شمال قطاع غزة –ايلي سيناي، دوغيت ونيسانيت، ستصبح مناطق صناعية جديدة وكبيرة ترتبط بمنطقة ايرز الصناعية، أما نتساريم في وسط القطاع فستتحول إلى منطقة التخزين الرئيسية لميناء غزة. وفي كفار داروم يعتزم الفلسطينيون تفكيك كل المباني والمنازل وتحويل المنطقة إلى منطقة زراعية. وفي رفح يعتزم الفلسطينيون إقامة منطقة تجارية حرة لتشجيع العلاقات الإقتصادية مع مصر. وفي مقابل هذه التغييرات، ستبقى مستوطنات غوش قطيف كما هي ويتم تحويلها لأغراض سياحية، حيث ستقام فنادق تستغل شاطئ البحر.

وتنشر الوثيقة، أن الفلسطينيين طلبوا من إسرائيل الإنسحاب إلى حدود 1967، والسماح بفتح المطار في الدهنية والشروع في بناء الميناء وتشغيل الممر الآمن بين غزة والضفة الغربية. وابلغ الفلسطينيون إسرائيل بأنهم يفضلون تأجيل الخطط لشق سكة حديد بين غزة والضفة، ويرفضون فكرة إقامة خدمة مروحيات. وفي شمال الضفة الغربية، يطالب الفلسطينيون بان تكون لهم حرية الوصول إلى باقي أرجاء الضفة الغربية. كما طالب الفلسطينيون باستلام الجداول الزمنية الكاملة لتنفيذ فك الإرتباط، وإن كان من المشكوك فيه أن تعطيهم إسرائيل اجوبة قاطعة على هذا الطلب.

3- خلاف بين الفلسطينيين وإسرائيل

في ختام اجتماع للجنة التنسيق المدني المشترك، قال محمد دحلان رئيس الطاقم الفلسطيني للإجتماع، أن الإسرائيليين يقدمون الحد الأدنى من التنسيق لفك الإرتباط، وهم لا يتعاملون بجدية مع مسألة الإنسحاب(4).

وكانت السلطة الفلسطينية قد اتهمت إسرائيل في 6/6/2005، بسوء النية لأنها لا تقدم مخططات البنى التحتية الخاصة بالمستوطنات المنوي الإنسحاب منها في قطاع غزة، وادعت إسرائيل في تعقيبها على تصريح دحلان، أن طاقم المفاوضات المكلف من قبل نائب رئيس الوزراء شمعون بيرس برئاسة المديرة العامة للوزارة (إفرات دوفدوفاني) وممثلي مجلس الأمن القومي اجتمع طوال خمس ساعات مع الطاقم الفلسطيني وقدم له مواد مختلفة شملت خرائط البنى التحتية، لكن الفلسطينيين طالبوا بأكثر من ذلك. ومن جملة ما طالبوا به خرائط لكل المستوطنات ومعطيات حول المواقع الأمنية ومنشآت البنى التحتية الإستراتيجية وصوراً جوية للمستوطنات، وهي أمور رفض الطاقم الإسرائيلي تقديمها قبل الإنسحاب بادعاء أن ذلك يشكل خطراً امنياً على المستوطنين والجنود طالما تواجدوا في قطاع غزة. إلى ذلك قالت صحيفة هآرتس، أن إسرائيل عرضت على الفلسطينيين ربط الضفة الغربية وقطاع غزة بخط قطار ينطلق من معبر ايرز شمال قطاع غزة حتى ترقوميا قرب الخليل. وأفادت الصحيفة، أن الوزير حاييم رامون الذي يتولى التنسيق المدني والإقتصادي مع الجانب الفلسطيني، عرض ذلك على الجانب الفلسطيني برئاسة وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية محمد دحلان، الذي أصر حسب الصحيفة على تفعيل الممر الآمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي التزمت به إسرائيل في اتفاقيات اوسلو(5).

ثالثاً: الوزراء يعارضون الهدم

مع بدء العد التنازلي للإخلاء، ازدادت وتيرة طرح المقترحات الخاصة بقضية المباني والمنشآت القائمة في المستوطنات المنوي إخلاؤها، وقد ترافقت هذه المقترحات مع رفض معظم وزراء الحكومة لفكرة هدم هذه المرافق، ويتزعم فريق الرفض للهدم نائب رئيس الوزراء شمعون بيرس الذي أبلغ السلطة الفلسطينية منذ شهر فبراير- شباط الماضي، أن إسرائيل معنية بالتوصل إلى تسوية لا تهدم فيها منازل المستوطنين وتنقلها إلى الفلسطينيين، كما اقترح أن يتلقى الفلسطينيون الدفيئات المقامة في المستوطنات "كمصالح تجارية حية"(6). وقد طرح بيرس اقتراحه في لقاء أجراه مع الوزير الفلسطيني لشؤون المفاوضات صائب عريقات، حيث قال بيرس "هذه مشكلة صعبة ومعقدة ولا نرغب في أن نرى على مدار أسابيع هدم منازل على كل شاشات التلفزيون في العالم، نحن نبحث للمشكلة عن حل إبداعي"(7). واقترح بيرس أن تنقل إسرائيل إلى الفلسطينيين كل المصالح التجارية الفاعلة للمستوطنين. وبالمقابل تتلقى إسرائيل المال من الأسرة الدولية وتنقله إلى المستوطنين، بحيث يكون ممكنا زيادة مبالغ التعويضات التي ستمنح لهم وستكون لهم مصلحة للتعاون لنقل الأملاك.

وقد أيد وزير الدفاع شاؤول موفاز موقف بيرس الرافض للهدم، وذلك بناءً على توصية تبلورت في جهاز الأمن بأن تسلم المنازل إلى الفلسطينيين كاملة، رغم أن حكومة إسرائيل أعلنت أنها قررت هدم منازل مستوطنات قطاع غزة بعد إخلائها.

وعلمت صحيفة معاريف، أن وزير الدفاع شاؤول موفاز ومدير عام وزارته اللواء احتياط عاموس يارون، يقفان من وراء هذه التوصية. وقد جاءت التوصية في أعقاب التطورات السياسية والأمنية التي طرأت منذ انتخاب أبو مازن رئيساً للسلطة الفلسطينية 9/1/2005. وقد طرح اللواء احتياط يارون حجتين لتوصيته بعدم هدم المنازل، الأولى: أن أعمال الهدم ستعرقل إنهاء الإخلاء بنحو شهر، الثانية: أن صور الهدم التي ستبث في كل أرجاء العالم ستلحق بإسرائيل ضرراً اعلامياً كبيراُ حيث سيتم تصويرها كمن تترك ارضاً محروقة خلفها، وأجمل اللواء احتياط يارون توصيته بالقول: "ماذا سيخرج لنا من هدم المنازل؟ لاشيء؟(8).

ومع اقتراب موعد الإخلاء، ارتفعت وتيرة المعارضة للهدم، فقد أعرب أغلبية الوزراء في الحكومة الإسرائيلية عن تأييدهم لإلغاء قرار الحكومة القاضي بهدم بيوت المستوطنين في قطاع غزة، وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية. وقالت صحيفة يديعوت احرونوت في عددها الصادر يوم الثلاثاء 10/5/2005، أن استطلاعاً هاتفياً اجرته مع الوزراء الإسرائيليين اظهر أن (12) وزيراً يعارضون هدم البيوت في المستوطنات، فيما يؤيد الهدم ثمانية وزراء. وأشارت الصحيفة، أن الوزراء الثمانية الذين يؤيدون الهدم جميعهم من حزب الليكود. فيما يعارض وزراء العمل الثمانية هدم هذه البيوت. كما يعارض هدم البيوت أربعة وزراء من الليكود وهم وزير الدفاع شاؤول موفاز والقائم بأعمال رئيس الحكومة ايهود الومرت ووزير الأمن الداخلي جدعون عزرا والوزير مئير شطريت.

والجدير بالذكر، أن وزراء الليكود الأربعة الذين يعارضون هدم البيوت هم أكثر الوزراء قرباً من رئيس الوزراء آرئيل شارون، الذي قالت الصحيفة انه لم يقرر بعد موقفه من هذه المسألة. وقالت الصحيفة، "إن تكلفة هدم البيوت ستبلغ 200 مليون شيكل"(9).

وفي هذا الإتجاه سعت إسرائيل إلى الربط بين إبقاء بيوت المستوطنات وتسليمها للفلسطينيين ووجود جهة ثالثة تشتري هذه البيوت لصالح الفلسطينيين. ولهذا الغرض التقى رئيس الوزراء ارئيل شارون في واشنطن 13/4/2005 (بول ولفوبيتش) الرئيس المرشح للبنك الدولي، وتحدث معه في إمكانية أن يشتري البنك الدولي المنازل التي ستخلي في غوش قطيف. وقد شدد شارون في اللقاء على أن شرط إسرائيل لأن توافق على إبقاء المنازل على حالها، هو أن يكون فك الإرتباط منسقاً(10).

رابعاً: الصحافة لا للهدم

عارضت معظم الأقلام في الصحافة الإسرائيلية قرار الحكومة الإسرائيلية القاضي بهدم بيوت المستوطنات، ففي افتتاحية هآرتس 6/5/2005 كُتب. مشهد الجرافات التي تهدم المنازل في جاني طال سيظهر على شاشات التلفزيون العالمية ويصبح ذكرى سلبية مثيرة، وحتى لو كانت السلطة الفلسطينية معنية بهدم المستوطنات، فليس لإسرائيل ما يدعو إلى أن يتذكرها الناس كهادمة للمنازل، وبالأساس ليس في ضوء حقيقة انه على مدى الإنتفاضة استخدمت الجرافات التابعة للجيش الإسرائيلي في أعمال هدم مكثفة لمنازل الفلسطينيين. لا داعي لتحويل الجرافة الهادمة خلافاً للبانية إلى رمز للإخلاء، كما انه لا يوجد داع لزيادة ميزانية الإخلاء بـ100 مليون شيكل أخرى.

ولما كان فك الإرتباط عن غزة سيكون خطوة أولي نحو حل شامل، فإن كل من يعارض هذا الحل، سيسره تخريب هذه الذكرى وتحويلها إلى ذكرى سلبية. على رأس مؤيدي الهدم يقف نتنياهو الذي قال في جلسة الحكومة (أول مايو) أنه يجب منع وضع يرث فيه القتلة الفلسطينيون منازل ضحاياهم.

الإستخدام الفظ للمفاهيم التي تربط في الذاكرة العامة بصدمات يهودية سابقة يفيد بأن نتنياهو يدفع إلى الأمام جدول أعمال يمينياً متطرفاً من اخلال استغلال عاطفي كاذب. فالمستوطنون الذين يخلون ليسوا ضحايا ولم يكونا هكذا أبداً. فقد جاءوا إلى المكان بإرادتهم وعاشوا فيه في ظروف مُحسنة، والآن سينتقلون إلى مكان سكن جديد وبعد فترة تكَيُّف، فإن وضعهم سيتحسن. ولن يهمهم كيف سيظهر خراب غوش قطيف بالجرافات، بل يهم دولة إسرائيل الإنطباع الذي سيخلفه الإخلاء على مواطنيها وعلى العالم بأسره.

وتحت عنوان لا تهدموا، كتب دوف غولدشتاين (كاتب يميني) في معاريف 9/5/2005 يقول: حتى لو تخيلنا أن مطلب نتنياهو هدم البيوت في غوش قطيف هو بمثابة محاولة أخيرة لمنع الإخلاء، فإنه لم ينجح في الإقناع بأن شيئاً حسناً سينشأ لإسرائيل إذا ما ابقت انقاضاً في المنطقة المخلاة.

مرة تلو الأخرى يكرر نتنياهو وهناك كثيرون يتمسكون بنظريته، بان نقل البيوت كاملة إلى الفلسطينيين سيجعهلم يرقصون على الأسطح ويحتفلون بانتصار الإرهاب. وفي جملة العلاقات المعقدة بين إسرائيل والفلسطينيين، هذا يعتبر تعليل واهٍ لا قيمة له. بعد اتفاق اوسلو، قال لي اسحق رابين: "ليس في كل مرة يرقص فيها الفلسطينيون على الأسطح يكون واجباً علينا أن ننطوي على أنفسنا في البيوت ونبكي"، ولا حتى هذه المرة أيضاً. ماذا إذاً سيقول لنا نتنياهو؟ هل أن الفلسطينيين سيرقصون على البيوت المخلاة؟ ليرقصوا. ليس كل في مرة يرقصون فيها يجب علينا أن نقيم مأتماً.

ومع زيادة النغمة المعارضة للهدم درست الحكومة حلا وسطاً يقوم على أن تهدم إسرائيل المنازل فيما تقوم محافل دولية بتكسيرها ويقوم الفلسطينيون بإخلائها. وهذا الإقتراح طرح أثناء مداولات جرت في مكتب وزير الدفاع شاؤول موفاز في نهاية مايو. وحسب الإقتراح، فإن إسرائيل ستهدم المنازل ولكنها ستعرض على الفلسطينيين الدفع لقاء إخلائها، وتساهم محافل دولية في إنجاز المهمة باستخدام آلات متطورة. ويتيح هذا الإقتراح سحب قوات الجيش من المستوطنات فور هدم البيوت وعدم الإنتظار حتى إخلائها، وسيتم توفير حملة لوجستية معقدة وباهظة التكاليف لإخلاء الحطام.

خامساً: التدخل الأمريكي يصادر الاحتكار الإسرائيلي

باعلان وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس تعيين جيمس ولفنسون (منتصف نيسان) مبعوثاً خاصاً لفك الإرتباط عن غزة، تكون الإدارة الأمريكية قد صادرت الملكية الفردية لحكومة شارون لخطة فك الإرتباط، التي ظلت تتباهى بان الخطة قرار أحادي الجانب، ليصبح متعدد الأطراف بإشراف أمريكي ودولي. فقد أصرت إسرائيل حتى ذلك التاريخ على رفض طلب السلطة الفلسطينية التنسيق معها في تنفيذ فك الإرتباط، ذلك الطلب الذي عرضه وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية محمد دحلان "إذا لم تكونوا تريدون مشاكل مثلما في مزارع شبعا فنسقوا معنا الخطة"(11).

إلا أن إسرائيل رفضت طلب السلطة الفلسطينية، وأعربت عن استعدادها للتنسيق في مجالين، هما: التفاهمات الأمنية –التنفيذية لمنع الإرهاب أثناء إخلاء المستوطنات، ونقل أملاك المستوطنات إلى السلطة(12). وقد انتهى لقاء وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز ومحمد دحلان يوم الخميس 21/4/2005، إلى تفاهمات مبدئية بشأن تنسيق جوانب فك الإرتباط بين إسرائيل والسلطة، ولم يتطرق الإجتماع إلى اتفاق معمق في قضايا جوهرية. وعليه فإن تعيين المبعوث الأمريكي ولفنسون الذي هو بمثابة ممثل الرئيس بوش وممثل رايس وشارك في تعيينه اللجنة الرباعية، سيجعل تنفيذ خطة الإخلاء أمام اختبار دولي سيقرر مَن مِن الجانبين أوفى بإلتزاماته، كما كُلف ولفنسون بتوثيق اتصالات الطرفين. وقد جاءت زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس للأراضي الفلسطينية وإسرائيل 18-20/6/2005، لإعطاء دفعة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، على مواصلة التنسيق بينهما لإنجاح خطة الفصل كخطوة أولى نحو العودة إلى خارطة الطريق. وقالت رايس في المؤتمر الصحفي الذي أعقب لقائها الرئيس الفلسطيني أبو مازن "إن السلطة الفلسطينية تعكف على إعداد خطة حول البناء في المنطقة بحيث تكون ملائمة لاحتياجات السكان في قطاع غزة، ومن اجل أن تستخدم العقارات التي ستبقى على حالها (في مناطق المستوطنات) لرفاهية الفلسطينية". وأضافت رايس، بخصوص البيوت في المستوطنات فهناك ألفي بيت في وقت يحتاج فيه الفلسطينيون إلى حلول سكن لـ 1.3 مليون فلسطيني، وقالت رايس إن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي قد اتفقا من حيث المبدأ على هدم المنازل في المستوطنات(13). غير أن الأمر المهم هو أن كلا الجانبين يريدان العمل سوية على حد تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية.

وكانت كونداليزا رايس، قد عارضت بشدة الهدم المقصود لمنازل المستوطنين في غزة، وحسب رأيها فإن الأمر سيضر بالأجواء الإيجابية بين إسرائيل والفلسطينيين، ففي مقابلة مع وكالة الأنباء (أي بي) كانت في معظمها نقدية تجاه إسرائيل 6/4/2005، وعدت رايس أيضاً بان تساعد الولايات المتحدة في إعادة بناء القطاع بعد الإنسحاب الإسرائيلي، وذلك لانه "إذا كان الفلسطينيون قادرين على أن يأخذوا غزة ويحولونها إلى منطقة مزدهرة على مدى السنين، فإن الأمر سيساعد المسيرة السلمية برمتها"(14).

وخلال اجتماعها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون، قالت رايس، إن تنفيذ خطة فك الإرتباط بنجاح وهدوء ومن خلال التنسيق مع الفلسطينيين، سيسمح بالعودة إلى خطة خارطة الطريق(15). ونقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن رايس قولها "إن الإنتقال لتنفيذ خارطة الطريق مشروط بأن يوقف الفلسطينيون الإرهاب والعنف ويقومون بتنفيذ الإصلاح المطلوب منهم"(16). وهذا شرط إسرائيلي طالما تشدق به اريئيل شارون بهدف التهرب من الإلتزام بتنفيذ خارطة الطريق، وجعل تنفيذ فك الإرتباط هو الحلقة الأولى والأخيرة في الإنسحابات الإسرائيلية.

وعقب انتهاء زيارة رايس، سارعت إسرائيل على لسان وزير ماليتها بنيامين نتنياهو (من معارضي فك الإرتباط)، إلى رفض تحمل إسرائيل نفقة إخلاء أنقاض بيوت المستوطنين التي سيتم هدمها بعد إخلاء مستوطنات قطاع غزة في إطار فك الإرتباط. وكانت رايس أعلنت في ختام اجتماعاتها مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين عن اتفاق الطرفين على هدم بيوت المستوطنات، وقيام الفلسطينيين باخلاء الأنقاض على نفقة إسرائيل أو الدول المانحة. وكان نتنياهو قد خرج صباح الإثنين 20/6/2005، بتصريحات عدوانية زعم فيها أن إسرائيل ليست مضطرة لتحمل نفقات إخلاء الأنقاض. وقال في تصريحات للإذاعة الإسرائيلية "إذا كان هناك جهات دولية تريد تحمل ذلك فلتفعل، أما إسرائيل فليست مضطرة إلى عمل ذلك.

الخاتمة

ما بين الهدم وعدم الهدم والتنسيق وعدم التنسيق، والتأجيل وعدم التأجيل، يتابع العالم التسويف والتهرب الإسرائيلي من تنفيذ انسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة ومستوطنات شمال الضفة الغربية، في محاولة إسرائيلية واضحة لاستنزاف الأطراف ذات العلاقة بالموضوع، الفلسطينيين، الإدارة الأمريكية، اللجنة الرباعية وحتى الدول العربية المحيطة. وقد نجحت إسرائيل في تحويل مطلب إسرائيلي ملح للإنسحاب من قطاع غزة نتيجة لحسابات إسرائيلية بحتة إلى مشروع يمكن تسويقه وتلقي الثمن مقابله، سواء أموال التعويضات من الإدارة الأمريكية، أو التزامات أمنية مشددة من الفلسطينيين وحتى التزام امني مصري لحماية الحدود، وشهادة حسن سير وسلوك من الرباعية على أن إسرائيل بانسحابها من قطاع غزة تكون قد نفذت شيئاً من خارطة الطريق. ومع ذلك فإن الشيء الأهم في هذه القضية، أن التحضيرات للإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة تترافق مع أجواء من العداء والكراهية والإرتياب المتبادل بين الطريفين ( الإسرائيلي والفلسطيني)، حيث لا يعرف احد المدى الذي سيخلفه هذا الإنسحاب وهل ستليه اسنحابات أخرى أم سيكون هو الأول والأخير؟، فهذا الإنسحاب لن يمضي وقت طويل حتى يظهر انه يفتقر إلى أي مضامين تصالحية أو مهدئة، بل على العكس تماماً، فهو مرشح لترسيخ العداء والكراهية لما فيه من متعلقات مجحفة بحق الفلسطينيين.

الهوامش:


(1) معاريف 16/2/2005.

(2) هآرتس، 23/5/2005.

(3) معاريف، 2/5/2005.

(4) عرب 48، 7/6/2005.

(5) عرب 48، 7/6/2005.

(6) معاريف، 14/2/2005.

(7) معاريف، 14/2/2005.

(8) معاريف، 3/3/2005.

(9) عرب 48، 11/5/2005.

(10) يديعوت احرنوت، 14/4/2005.

(11) هآرتس، 25/4/2005.

(12) هآرتس، 25/4/200

(13) عرب 48، 20/6/2005.

(14) معاريف، 7/4/2005.

(15) عرب 48، 20/6/2005.

(16) عرب 48، 20/6/2005.


الصفحة الرئيسية | مجلة المركز | نشرة الأحداث الفلسطينية | إصدارات أخرى | الاتصال بنا


إذا كان لديك استفسار أو سؤال اتصل بـ [البريد الإلكتروني الخاص بمركز التخطيط الفلسطيني].
التحديث الأخير:
16/01/2006 12:16 م