عاطف المسلمي في الثامن من كانون أول ديسمبر 2003، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يطلب من محكمة العدل الدولية البت في الإنعكاسات القانونية لبناء الجدار العازل الذي تشيده إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلة: "ما هي بموجب القانون انعكاسات بناء الجدار الذي تشيده إسرائيل (قوة الإحتلال) في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك داخل القدس الشرقية ومحيطها وفقاً لما ورد في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة؟(*)، وبالنظر إلى مبادئ القانون الدولي وقواعده، ولاسيما اتفاقية جنيف الرابعة العائدة إلى العام 1949، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ذات الصلة"(1). كما تبنت الجمعية العامة قراراً ثانياً يقضي بإستئناف الجلسة الخاصة بقضايا الشرق الأوسط، إذا استمرت إسرائيل في تحدي المطالبة بوقف بناء الجدار الفاصل. وقد تم اعتماد القرار بموافقة (90) دولة ومعارضة ثماني دول من بينها الولايات المتحدة، وامتناع (74) عن التصويت بينها دول الإتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك التاريخ شنت إسرائيل هجوماً عدائياً ضد المحكمة ممثلة بقضاتها وبخاصة العرب منهم (مصري وأردني) وتعدى الأمر إلى وصف هذه المحكمة بأنها محكمة سياسية لا محكمة قضاء. والسبب في ذلك أن إسرائيل غير القانونية ببنائها الجدار الفاصل الذي يمثل اعتداءً مباشراً على الأراضي الفلسطينية، وانتهاكاً صارخاً لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني منذ عام 1947 وحتى يومنا هذا لا يمكنها الإنتظار حتى تُجرّم دولياً أمام أعلى هيئة قضائية في العالم. لذلك بادرت إلى شن هجوم دعائي صارخ يهدف إلى الطعن في صلاحية المحكمة وفي نوايا قضاتها مستخدمة في ذلك شتى السبل. أولا: موقف إسرائيل القانوني وصلاحية المحكمة: أدركت إسرائيل منذ الوهلة الأولى أن موقفها القانوني مأزوم، وانه لن يجدي نفعاً الإستعانة بأكبر المستشارين القضائيين في العالم، حيث ستعتمد المحكمة في الأساس وكما ورد في نص رسالة الجمعية العامة على قرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947، والذي نص على إقامة دولتين عربية ويهودية من جهة اولى، وقرار مجلس الأمن 242 و338 اللذين ينصان على اعتبار الأراضي الفلسطينية أراضي محتلة من جهة أخرى(2). وهذا ما يؤكد أن إسرائيل دولة احتلال عليها تطبيق نص النظام رقم (43) من أنظمة لاهاي الصادر عام 1907، والذي ينص على انه يجب على القوة المحتلة أن تستمر في تطبيق المبادئ القانونية التي كانت مرعية بداية الاحتلال(3). وتشير المادة (47) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، إلى أن هذه المادة ترتدي أهمية كبيرة، حيث تعتبر الإحتلال الحربي حالة مؤقتة تنتهي مع ايجاد تسوية سلمية بما يترتب على ذلك من تبعيات قانونية، حيث يقضي القانون الدولي بأن يكون كل فعل تفعله القوة المحتلة مؤقتاً، ولا يجوز لها بالتالي أن تقوم بأية تغييرات تكون ذات مضامين بعيدة الأجل أو من شأنها تغيير الأوضاع القائمة. ولا شك في أن بناء الحكومة الإسرائيلية لجدار الفصل قد غير خريطة الأراضي الفلسطينية، وخلق وضعاً سكانياً ومادياً واقتصادياً واجتماعياً، يتناقض تماماً مع التغيير المؤقت وقضى تماماً على إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل في المستقبل. وتملك محكمة العدل الدولية التي أسست مع الأمم المتحدة في عام 1946، وحلت محل محكمة عصبة الأمم، صلاحيات مزدوجة في البحث في الصراعات بين الدول التي توافق على الإلتماس لديها واصدار الأحكام القضائية-القانونية التي تطرحها منظمات مخولة وذات صلاحيات(4). وفي إطار الجزء الثاني من الصلاحيات، توجهت الأمم المتحدة لمحكمة العدل الدولية في لاهاي لاستصدار قرار في قضية شرعية جدار الفصل، هل هوحاجة أمنية لا يتوجب شجبها مثلما تدعي إسرائيل، أم انه يتمخض عن جيوب تماثل بانتوستان وعن قوانين مرور تميز بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثلما يدعي العرب؟ ثانياً: خطة الدفاع الإسرائيلية: في الجلسة التي عقدها رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون يوم 14/1/2004، بمشاركة النائبة العامة للدولة عدنا آربيل ومدير مكتب رئيس الوزراء دوف فايسغلاس ومدير عام وزارة الخارجية يوآف بيران وسكرتير الحكومة يسرائيل ميمون وسلسلة أخرى من كبار الموظفين في وزارات العدل والخارجية والأمن، تمت صياغة الموقف الذي ستطرحه إسرائيل أمام المحكمة، حيث كان الرأي السائد حتى ذلك الحين أن إسرائيل ستشارك في جلسات المحكمة، ويتضمن نقطتين، الأولى: نكران صلاحية المحكمة في البحث في المسائل المتعلقة بالنزاع السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين. والثانية طرح حجج تبرر إقامة الجدار، على أساس حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، إضافة إلى ذلك ستدعي إسرائيل أن محكمة العدل العليا (الإسرائيلية) التي تتمتع بسمعة دولية قد بدأت في البحث في الإلتماسات المتعلقة بقانونية الجدار، ولهذا لا داعي لإجراء بحث آخر في هذا الشأن. ولغرض المعركة الإعلامية حيال الفلسطينيين، استعانت الخارجية الإسرائيلية بخدمات ثلاثة مكاتب للعلاقات العامة تعمل في أوروبا والولايات المتحدة، بهدف إدارة حملة اعلامية قوية هدفها تحسين صورة إسرائيل في أوروبا والعالم. كما قررت الخارجية الإسرائيلية الإستعانة برجال قانون دوليين، امثال البروفيسور في القضاء الدولي البريطاني (دانيال بيت لحم) المختص في قضايا المحاكم الدولية. وعلى الأرض حثت وزارة الدفاع الإسرائيلية شركات البناء والمقاولين على سرعة العمل لإنجاز الجدار، وبخاصة حول القدس، كما صدرت بعض التصريحات من كبار الوزراء تتحدث عن إمكانية إجراء بعض التعديلات على الجدار في المناطق التي حدث فيه ضرر للفلسطينيين. وهذا الخطاب موجه في الأساس إلى أوروبا، فقد صرح مستشار رئيس الوزراء لشؤون الأمن القومي اللواء احتياط غيورا آيلاند في محاضرة ألقاها في مدينة ميونخ الألمانية "أن الجدار حيوي وشرعي ومؤقت، لكن الطاقم الذي خطط له فشل في التنبؤ بانعكاساته على حياة الفلسطينيين الأبرياء، لذلك يتحتم على إسرائيل الآن دراسة كافة أبعاد الجدار واتخاذ خطوات كفيلة بتحسين الوضع وتغيير مسار الجدار في الأماكن الضرورية(5). لقد أدركت إسرائيل منذ الوهلة الأولى، أنها في أزمة جدية أمام إحدى أعلى المؤسسات الدولية، فإسرائيل التي دائما ما تكون موجودة في عزلة مزمنة في المؤسسات الدولية، تتأرجح اليوم بين رغبتها في الحصول على الإعتراف والشرعية وبين ميلها للإستخفاف بالأمم المتحدة وهيئاتها (كان رئيس الحكومة الأسبق مناحيم بيغن ينعت الأمم المتحدة بعبارة "اوم-شموم" أي أمم متحدة خاوية)(6). إلا انه في ظل توقف العملية السياسية مع الفلسطينيين، فإن محكمة لاهاي ستكون في بؤرة النشاط الدبلوماسي ولا مجال للإستهانة بها، بخاصة وان لهذه المحكمة سوابق مشابهة، ولقراراتها أهمية خاصة على الرغم من أنها تعتبر توصيات غير ملزمة، ففي عام 1971، نفت هذه المحكمة قانونية الإحتلال الجنوب افريقي لناميبيا، الأمر الذي فتح الطريق أمام فرض العقوبات وهدم نظام التفرقة العنصرية. وبدون شك، فإن الفلسطينيين الذين بادروا إلى هذه الخطوة بدعم من الأمم المتحدة يتطلعون إلى السير على نفس الطريق، وان كانت هذه الإمكانية ضعيفة جداً في هذا الوقت، نظرا لتمتع إسرائيل بغطاء أمريكي قوي. ثالثا: "محكمة العدل العليا والجدار": في خطوة إعلامية استباقية نظرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية في التاسع من فبراير في عدد من الإلتماسات التي قدمها فلسطينيون ومنظمات لحقوق إنسان ضد جدار الفصل. وقدم الملتمسون ستة تقارير إلى المحكمة أعدتها منظمات حقوق إنسان من جميع أنحاء العالم، تبين الأضرار الفادحة التي ألحقها الجدار بحياة الفلسطينيين. وأكدت هذه التقارير أن "لمسار الجدار تأثير هدّام على الفلسطينيين من الناحيتين الإقتصادية والإجتماعية. فالجدار يفرق بين العائلات ويفرق بين المواطنين وأراضيهم. ولفتت التقارير إلى أن أضراراً جسيمة لحقت بأكثر من (800) ألف فلسطيني. وكان رد النيابة العامة ممثلة في المحامي ملكيئيل بلاس، أن "الحكومة الإسرائيلية تبحث في إمكانية تغيير مسار الجدار وفي أجزائه غير المبنية تحديداً. وقد بادرت الحكومة الإسرائيلية بالتزامن مع مناقشة الإلتماسات في محكمة العدل العليا إلى إدخال بعض التعديلات الطفيفة على مسار الجدار، وقررت إزالة بعض النتوءات المحيطة بمستوطنات في محاولة لضمان التأييد الأمريكي للمشروع. وادعت النيابة العامة في ردها، أن الإلتماسات هي سياسة ولذلك فإن المحكمة العليا يجب أن لا تنظر في هذه الإلتماسات. وبعد الإستماع إلى ردود النيابة العامة على الإلتماسات، كان على قضاة المحكمة العليا البت في جملة من الأسئلة المتصلة بالعديد من فروع القانون، ابتداءً من القانون الدولي وحقوق الإنسان والمعايير العالمية وقوانين الحرب وانتهاءً بالإجراءات الشكلية ومراعاة السوابق. هناك ما لا يقل عن ستة أسئلة مبدئية تحتاج إلى اجابات قبل اتخاذ القرار بشأن مشروعية جدار الفصل، وهي: 1- هل يتناول الإلتماس المقدم للمحكمة قضية سياسية أم أمنية؟ 2- هل يبرر "الصراع المسلح" إقامة الجدار في عمق الأراضي الفلسطينية؟ 3- هل جرت عملية موازنة ملائمة بين حق الملكية وحرية الحركة والتنقل وبين الحق في الحياة؟ 4- هل يمكن رفض أو إدانة جدار لم تتم إقامته بعد؟ 5- هل تحول نسيج الحياة في محيط خطوط التماس إلى نظام تصاريح؟ 6-هل سيشكل قرار المحكمة الإسرائيلية العليا، محكاً للقرار المرتقب في محكمة لاهاي؟ وحتى هذا التاريخ لم تبت المحكمة العليا في هذه الإلتماسات. رابعاً: إسرائيل تقاطع المحكمة الدولية: في الثامن والعشرين من يناير الماضي، قررت إسرائيل إرسال لائحة دفاعية مؤلفة من 150 صفحة إلى المحكمة الدولية في لاهاي، تم التأكيد فيها بصورة قاطعة أن إسرائيل لا تعترف بصلاحية هذه المحكمة لمناقشة موضوع جدار الفصل. وتشتمل هذه الوثيقة على شرح مفصل لمتطلبات إسرائيل الأمنية، بما في ذلك معلومات عن العمليات التفجيرية. وتمت المصادقة على هذه الوثيقة خلال الجلسة التي عقدها مجلس الوزراء المصغر للشؤون الأمنية برئاسة آرئيل شارون، ولم يبت في هذه الجلسة في مسألة إرسال أو عدم إرسال ممثلين لحضور جلسات المحكمة. وكان أول تصريح بإحتمال مقاطعة جلسات المحكمة قد صدر عن وزير خارجية إسرائيل سلفان شالوم (11/2/2004)، عندما قال للصحفيين في ختام زيارة رسمية للهند "إن إسرائيل ربما تقاطع جلسة الإستماع التي ستعقدها محكمة العدل الدولية بشأن الجدار العازل"(7). وفي الثامن والعشرين من فبراير وخلافاً لرأي وزير العدل الإسرائيلي يوسيف لبيد(*)، قررت لجنة وزارية برئاسة آرئيل شارون مقاطعة جلسات المحكمة التي ستبدأ في 23/فبراير 2004، مستندة في ذلك إلى توصيات فريق خبراء، وقررت اللجنة التمسك بالوثيقة الخطية التي سلمتها إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية في 30/ يناير. وإزاء ازدياد النظرة التشاؤمية تجاه ما سيتمخض عن المحكمة، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عزمها على استكمال بناء الجدار رغم إحالة القضية إلى محكمة لاهاي. وقد استندت الحكومة الإسرائيلية في قرارها على رأي عام مؤيد في أغلبيته لبناء الجدار. فقد أظهر استطلاع للرأي نشرته معاريف في بداية فبراير أن 53% من الإسرائيليين يعتبرون أن إسرائيل يجب أن تواصل بناء الجدار حتى لو كان الثمن عقوبة اقتصادية تفرضها الأمم المتحدة على بلادهم(8). خامسا: حملة اعلامية شرسة: في الثامن عشر من فبراير، عقد في وزارة الخارجية الإسرائلية اجتماع لوضع اللمسات الأخيرة على استراتيجية الحملة الإعلامية التي ستقوم بها إسرائيل خلال مداولات محكمة لاهاي، وضمن هذه الإستراتيجية، يتوجه إلى لاهاي وفد غير رسمي من وزارة الخارجية الإسرائيلية، يضم عددا من المتحدثين وأفراد عائلات بعض قتلى العمليات التفجيرية، كما تقرر عرض هيكل الحافلة رقم (19) التي تعرضت لعملية تفجيرية في القدس في29/1/2004. كما قررت وزارة الخارجية الإسرائيلية لأول مرة منذ اندلاع الإنتفاضة عرض شريط فيدو يُظهر صوراً بشعة على نحو خاص للعملية التفجيرية التي وقت في القدس، والهدف كما تأمل وزارة الخارجية، أن تحدث هذه الصور صدمة في العالم، فتوضح الحاجة إلى جدار الفصل استعدادا للمداولات في موضوع الجدار. وقد صور الفيلم في الباص ومحيطه بعد وقت قصير من العملية، حيث وثق المصور أجزاء أجساد مقطعة. وإسرائيل التي أتاحت عرض هذه الصور تعتبر نفسها في حالة حرب وحان الوقت للعالم أن يعرف الحقيقة (حسب وزارة الخارجية)، وهي تتضمن أنه "لو كان الجدار، ببساطة ما كان هذا ليحصل"(9). وقد أقرت إسرائيل في بدء مداولات محكمة لاهاي على لسان العديد من قادتها ومعلقيها البارزين، بأن معركتها لا تعدو أكثر من كونها "معركة اعلامية" على عقول وأفئدة الرأي العام العالمي وهذا الإقرار ناجم قبل كل شيء عن استنتاج إسرائيلي رسمي لواقع فقدان أي احتمال أو إمكانية لإقناع الرأي العام العالمي الذي يهمها أمره بشرعية الجدار على وجه العموم، وبالأخص في ضوء حقيقة مؤداها أن الولايات المتحدة (حليفها الأقوى) لا تزال على موقفها المعارض لمسار الجدار. وإذا كان ديوان رئيس الحكومة قد اقترح إلغاء جميع الإستعدادات الخاصة بالمحكمة في تلميح صريح إلى أن ما ستنطوي عليه المحكمة سيكون وقائع خسارة معلنة لإسرائيل. فإن وزارة الخارجية الإسرائيلية أقنعت المسؤولين بإعطائها الفرصة لخوض معركة إعلامية تحت الأضواء. وحاولت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن يكون التركيز على هامش المحكمة لا على الجدار نفسه وحول ما تدعي انه السبب المباشر لإقامة هذا الجدار، وبعبارة أخرى تحاول الإقناع بأن الجدار هو نتيجة لسبب قائم لدى الطرف الفلسطيني واسمه الإرهاب، وفي هذا الشأن قال وزير الخارجية الإسرائيلي "سيلفان شالوم" في معرض شرحه، "الإستراتيجية الدعائية لإسرائيل على مسامع وزراء حكومة شارون:" نحن متواجدون في لاهاي لا للحديث عن الجدار، وإنما للحديث عن الإرهاب. وذلك في سبيل أن يفهم العالم ما هو السبب الرئيسي والوحيد الذي دفعنا إلى بناء الجدار"(10). سادسا: إسرائيل: المحكمة المنحازة: عقب مرافعات الوفد الفلسطيني الناجحة في اليوم الأول لمداولات محكمة العدل الدولية في 23/2/2004، جاء الرد الإسرائيلي سريعاً على شكل بيان حكومي حاد اللهجة صدر فور انتهاء الجانب الفلسطيني من تقديم مرافعاته، حيث أصدرت الحكومة الإسرائيلية بياناً قالت فيه، "إن جلسات محكمة العدل الدولية حول شرعية الجدار الفاصل في الضفة الغربية منحازة ولا تأخذ في الإعتبار مسألة ما تسميه الإرهاب الفلسطيني". وأضاف البيان "أن المرافعات الفلسطينية، أمام هذه المحكمة تؤكد ما كانت تخشاه دول عديدة من الطبيعة المنحازة للقضية التي تدرسها المحكمة والساعية إلى مقاضاة الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل ضد الإرهاب بدلا من مقاضاة الإرهابيين أنفسهم"، وتابعت الحكومة الإسرائيلية في بيانها، أن المرافعات أمام محكمة العدل الدولية ترتكز فقط على نمط حياة الفلسطينيين وليس على حق الإسرائيليين في الحياة. وقالت إن إسرائيل ستواصل بناء الجدار حتى في حال أصدرت المحكمة قراراً مناقضاً. وادعت إسرائيل في وثيقة خطية أرسلتها إلى المحكمة الدولية، ونشرت في اليوم الأول لجلسات المحكمة "أن صدور رأي عن هذه المحكمة بشأن شرعية جدار الفصل سينسف خارطة الطريق. وجاء في الوثيقة الإسرائيلية. انه حتى إذا كانت المحكمة ترى أن لها ولاية لنظر القضية، فإنه يتعين عليها رفض طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة تقديم رأيها بشأن الجدار، من منطلق المواءمة القضائية. واتهمت الوثيقة الأمم المتحدة بإظهار انحيازها ضد إسرائيل في طلبها. وقالت "إن الجدار يتعلق بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني وسيكون "تقدم المحكمة برأيها" لحد كبير بمثابة فصل في ذلك النزاع، مشيرة إلى أن أية دولة ليست ملزمة بالسماح بإحالة نزاعاتها للتسوية القضائية دون موافقتها. وأضافت، أن تدخل المحكمة من شأنه أيضا عرقلة الجهود الرامية إلى استئناف المفاوضات بين الجانبين وإحياء خطة خارطة الطريق الدولية للسلام". وقالت الوثيقة، إن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الخصوص والصادر في الثامن من كانون أول الماضي، يعكس أفدح أشكال التحامل والإنحياز. وقالت إسرائيل "إن الجمعية العامة لا يمكنها طلب رأي محكمة العدل الدولية إلا إذا تقاعس مجلس الأمن عن اتخاذ إجراء، وهو الأمر الذي لم يحدث، حيث أن المجلس اقر خارطة الطريق قبل اقل من ثلاثة أسابيع من قرار الجمعية العامة(11). كما اتهم إلان بيكر المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، الفلسطينيين باستغلال جلسات محكمة العدل الدولية، لمحاولة وصف إسرائيل بأنها دولة خارجة على القانون وتدمير شرعيتها. وابلغ بيكر، الذي اعد دفوع إسرائيل المكتوبة، "أن إسرائيل لم تحضر الجلسات بشأن الجدار العازل، لأنها تعتبر القضية ذات دوافع سياسية وليست طلبا صادقاً لرأي قانوني. وقال في حديث لوكالة رويترز، التكتيك الفلسطيني...كان السعي إلى تجريد إسرائيل من شرعيتها وقد فعلوا ذلك في جميع الهيئات التابعة للأمم المتحدة(12). سابعاً: المحكمة وحساسية الموقف الأمريكي: في الأسابيع القليلة التي سبقت إنعقاد جلسات محكمة لاهاي، شعرت الولايات المتحدة بمدى حساسية موقفها، وكان مطلوباً منها إيجاد صيغة توافقية بين موقفين، فهي من جهة غير مناصرة للجدار الفاصل الذي أقامته إسرائيل في المناطق الفلسطينية، وان كانت الإدارة الأمريكية قد سلمت بقضية بناء الجدار، إلا أنها لا زالت تعارض المسار الحالي له. ومن جهة أخرى، لا تؤيد الولايات المتحدة توسيع صلاحيات محكمة لاهاي ونقل القضايا الدولية للنقاش فيها. وقد حاولت الولايات المتحدة قُبيل إنعقاد جلسات المحكمة التحرك في هذا المسار الضيق والهدف كيفية منع المحكمة من التحول إلى طرف سياسي مقرر، من دون أن تدفع إسرائيل إلى اعتبار ذلك موافقة منها على إقامة الجدار. وقد بذلت إسرائيل جهوداً حيثية لإقناع واشنطن الوقوف إلى جانبها، والرسالة التي توجهت بها إسرائيل نحو امريكا هي، "أن ما سيبحث في لاهاي ليس كون الجدار فكرة جيدة أم لا، وإنما هي أن محكمة لاهاي ستتحول إلى هيئة عليا للبت في المسائل السياسية، وهذا ما سيهدد هيمنة الولايات المتحدة في العالم. وقد أوضحت واشنطن لإسرائيل أنها تعارض طرح القضية للنقاش في لاهاي، وأنها تدرس التكتيك الملائم لمعالجة هذه المسألة، وطرحت واشنطن إمكانيتين للتعامل مع الموقف، الأولى: تقدم واشنطن تصريحاً للمحكمة تعبر فيه عن معارضتها لإتخاذ قرار ضد إسرائيل في قضية الجدار. الإمكانية الثانية هي: اقدام واشنطن بالتنسيق مع دول أخرى مثل كندا استراليا ودول الإتحاد الأوروبي على تقديم تصريح جماعي للمحكمة يعارض نقل مسألة سياسية إلى محكمة دولية، وهذا ما تم تبنيه بالفعل بعد التفاوض بين واشنطن والدول الأوروبية التي تعارض بناء الجدار بشدة وعارضت نقل القضية إلى المحكمة الدولية. وقد أيدت الولايات المتحدة إسرائيل في قراراها مقاطعة جلسات المحكمة، وحثت المحكمة على عدم إصدار رأي حول شرعية الجدار، معتبرة أن مثل هذا الرأي سيقوض جهود السلام في الشرق الأوسط(13). وكتب المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأمريكية "وليام تافت" في مذكرة خطية موجهة إلى المحكمة، "إن واشنطن تعتقد أن إصدار رأي حول المسألة يهدد بتقويض عملية السلام وتسييس المحكمة"(14). الخاتمة: سجل الفلسطينيون انتصاراً معنوياً واضحاً في محكمة لاهاي، حيث تم فضح ممارسات إسرائيل أمام العالم اجمع، وذلك ليس إعلامياً بل قانونياً، كما استطاع الفلسطينيون وبموضوعية حشر إسرائيل أمام أعلى هيئة قانونية دولية، بحيث لم يتركوا لها منفذاً سوى مقاطعة هذه المحكمة، الأمر الذي اظهرها بمظهر الخارج على الشرعية الدولية. فعلى مدار ثلاثة أيام من 23 حتى 25/2/2004، استمع قضاة محكمة لاهاي الدولية برئاسة القاضي الصيني شي جيوونج إلى مرافعات الوفد الفلسطيني والوفود المشاركة الأخرى، حول عدم شرعية الجدار الفاصل الذي تبنيه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعد هذه المرافعات سيقوم القضاة الـ15 بالنظر في كافة البيانات والوثائق الخطية المقدمة لهم لإتخاذ رأي قانوني بخصوص هذا الجدار خلال الأشهر القادمة. ولم تنتظر إسرائيل حتى يصدر مثل هذا القرار، فبادرت وحلفاؤها إلى ممارسة الضغوط على القضاة من خلال فضح سيرتهم الذاتية ليتسنى لها وقف أي فتوى قانونية ستصدر عن المحكمة، لأن إسرائيل تعلم جيداً وهي دولة احتلال، أن أي فتوى قانونية بخصوص الجدار لن تكون في صالحها. ومع علم إسرائيل بأن أي حكم تصدره المحكمة لا يأخذ صفة الإلزام، إلا أنها تخشى أن يؤدي الحكم في غير صالحها إلى تحرك دولي ضدها في المستقبل، مثل فرض عقوبات كما حدث للنظام العنصري في جنوب أفريقيا سنة 1971. والسؤال الذي يطرح نفسه، في هذه الحالة، ماذا سيفعل الطرف الذي سيكسب الدعوى أمام محكمة العدل الدولية، عندما يرفض الطرف الآخر (الخاسر) هذه الفتوى؟ بكل تأكيد إن إسرائيل سترفض هذه الفتوى وستعتبرها تهديداً لسيادتها، لأنها دولة فوق القانون كما تدعي، لكن الجانب الفلسطيني ليس أمامه والحالة كذلك إلا الطلب من الدول العربية والصديقة إحالة القضية إلى الهيئة العامة ومجلس الأمن، حيث يتربص الفيتو الأمريكي ومن ثم ستعود القضية إلى أروقة الجمعية العامة، لإصدار قرار تقول فيه: إن إسرائيل تخرق الأعراف والقوانين الدولية، وإن بنائها للجدار الفاصل خرقاً لإتفاقية جنيف لعام 1949 وللقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، مما يترتب على إسرائيل التزامات ومسؤوليات مدنية وجنائية، فيما عملية بناء الجدار ماضية قدماً دون توقف. الهوامش (*) صدر تقرير الأمين العام في 28/11/2003، "إن إسرائيل لم تمثل لطلب الجمعية العامة بوقف وإلغاء وتشييد الجدار داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقال عنان انه يقر ويعترف بحق إسرائيل وواجبها في حماية شعبها أمام الهجمات الإرهابية، إلا أن ذلك الواجب لا ينبغي تحقيقه بطريقة تتنافى مع القانون الدولي، مما يؤدي إلى تقويض عملية السلام بزيادة صعوبة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وزيادة المعاناة بين الشعب الفلسطيني". عن مركز أنباء الأمم المتحدة. (*) كانت وجهة نظر لبيد "أن المحكمة ليس لها صلاحية في هذه القضية لكنه يرى أن على إسرائيل أن لا تفسح المجال لأعدائها في مطلق الأحوال بتخليها عن المشاركة في المداولات". (1) الأيام، 9/12/2004. (2) دكتور حنا عيسى- القدس، 13/2/2004. (3) المصدر السابق. (4) المنظمات الدولية، د.مفيد شهاب. (5) القدس، 10/2/2004. (6) هآرتس، 8/1/2004. (7) القدس، 12/2/2004. (8) القدس، 14/2/2004. (9) الأيام، 21/2/2004. (10) يديعوت احرونوت، 30/1/2004. (11) يديعوت احرونوت، 23/2/2004. (12) القدس، 24/2/2004. (13) القدس، 24/2/2004 (14) المصدر السابق. |
|