" القسم الثاني " سليم المبيض احتلت القوات الصهيونية قطاع غزة في 5/6/1967، وكان المهندسون والعمال العرب الفلسطينيون والمصريون يقومون بترميم وتوسيع كوبري وادي غزة لتسهيل سير وسائل النقل بين شمال القطاع وجنوبه، ومنها خط سكة الحديد. وبعد عام تقريبا من استيلائها على القطاع، ألغت سلطات الاحتلال القطار الرابط بين غزة والقاهرة واستغلت قضبان السكة الحديد في بناء ما سُمى "بخط بارليف" على قناة السويس، وبدأ مزارعو منطقة المغراقة "تل العجول" في استثمار مساحة الخمسين مترا على جانبي خط السكة الحديد في الزراعة، كما بدأ العديد من السكان في استئجار مئات الدونمات من دائرة الوقف لزراعتها للتخفيف من الضائقة الاقتصادية التي بدأت تخنقهم منذ أوائل السبعينات. بداية النهب الاستيطاني التخريبي : بدأت عملية النهب الاستيطاني في هذا القطاع الضيق بأهله منذ عام 1968، حيث أقيمت أولى "المستخربات" في بيت حانون شمالي غزة – المنطقة التي أطلقوا عليها اسم معبر إيريز- حيث قضمت هذه المستخربة الصناعية نحو ألف دونم من الأرض. في يوليو 1971، وفي ضوء المقاومة الفلسطينية العنيفة للاحتلال، تم تعيين أرييل شارون حاكماً لقطاع غزة، حيث اعترف بأنه خلال الفترة من يوليو 1971 ولغاية فبراير 1972، قام بقتل 104 فدائياً وسجن 702 مناضلاً (منهم نساء، وأطفال)، معلناً ودون خجل انه في هذه الفترة قتل خطأ مدنيين فقط "امراة اتخذت درعا من قبل المناضلين ورجلاً أصم أنذره الجيش بالوقوف فلم يمتثل فأردوه قتيلا" [i]. ونتيجة للمقاومة العنيفة التي شنها ابطال القطاع، دمر شارون مئات البيوت في المدينة والمعسكرات بصفة خاصة بحجة " توسيع الشوارع تسهيلا لعمل دورياتنا"، كما هَجّر نحو ألف أسرة إلى منطقة العريش وضواحيها في الاراضي المصرية، وطلب من لجنة وزارية قدمت لمدينة غزة تقديم تقويم مختصر للصراع بين المناضلين من ابناء القطاع والجيش الاسرائيلي المحتل، واقترح عليهم انشاء بعض "القرى" كنوع من العوائق اليهودية لتقسيم قطاع غزة الى عدة اجزاء بحيث تقام واحده بين غزة ودير البلح، واخرى بين دير البلح وخان يونس وثالثة بين الاخيرة ورفح ورابعة غرب رفح "[ii] . وتم تطبيق ذلك بإنشاء "مستخربة" نيتساريم عام 1972م. ومع سقوط حزب العمل في الانتخابات التي أعقبت حرب 1973، بدأ حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغن تصعيد عملية بناء "المستخربات" التي ما لبثت أن وصل عددها إلى تسعة عشرة. مستخربة نيتساريم : بنيت هذه "المستخربة" في عام 1972 باسم "ناحال نيتساريم"، والناحال تعني "منظمة الشباب الطليعي المحارب "، معلنة بذلك عن دورها الدموي فاستولت على تلة مرتفعة بلغت مساحتها نحو 2325 دونماً منها 22 دونماً تملكها أسرة غزية هي أسرة المرحوم شكري السقا، وكانت بقية الأرض مملوكة وفق حق الانتفاع لعشرين عائلة غزية من حي الزيتون (انظر وثيقة رقم 1). وهي أراض كانت مزروعة بالكروم والتين والجميز، حيث قام "المستخربون" بقلعها من جذورها[iii]. وتبتعد هذه التلة عن البحر المتوسط بنحو كيلو متر واحد وتشرف منه على مدينة غزة وتفصلها عن المنطقة الوسطى (معسكرات النصيرات والبريج والمغازي ومنطقة الزوايدة ودير البلح) بصفة خاصة، وعن الجنوب بصفة عامة، وتشرف بشكل مباشر من جهة الشمال على منطقة المغراقة وتل العجول وأرض أبو مدين. ولأجل التحكم والسيطرة والفصل بين شمال وجنوب القطاع، قامت قوات الاحتلال بشق طريق إسفلتي يبدأ من نقطة التقاء الطريقين الشرقي (المنطار) وشارع صلاح الدين (نقطة البوليس الحربي) نحو الغرب مخترقا الاراضي الزراعية التي يمتلكها المواطنون[iv] (النصف الشمالي من الاسفلت)، اما النصف الجنوبي فهو أرض وقف، حيث أصبح هذا الطريق بمثابة خط تقسيم تعسفي بين مدينة غزة وقراها الشمالية وبين مدن الجنوب وقراها ويكفي لتنفيذ ذلك وضع بعض القوات الإسرائيلية عند طرفيه الشرقي (نقطة البوليس الحربي) والغربي عند ساحل البحر لاتمام عملية الفصل في أي وقت. كما أقيمت هذه "المستخربة" نتيساريم على بحيرة من المياه الجوفية العذبة حيث قام "المستخربون" بحفر بئرين فيها لسحب المياه والتحكم في نزفها كيف يشاؤن وبكمية لا تتناسب قط مع تعدادهم الضئيل، مما رفع بدوره نسبة الاملاح الى 1000 ملغم معرضين أبناء هذه المنطقة للعديد من الامراض، بالاضافة لبيعهم كميات ضخمة من الرمال الشاطئية مع ما تسببه عمليات التجريف هذه من أضرار بالشجيرات (الاحراش) التي تعيق عملية زحف الرمال. وعلى اثر ذلك قدم المالكون والمزارعون من ابناء مدينة غزة شكوى لوزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، يطالبونه بوقف عمليات الاستيلاء والتجريف لأراضيهم التي يزرعونها منذ العصر التركي مؤكدين له بان هذا العمل مخالف للقانون والحقوق المكتسبة ومناقض لاتفاقية جنيف (انظر وثائق 1-2). ومن سخريات الجغرافيا والتاريخ معا ان يطلق على هذه "المستخربة" اسم "نيتساريم" وتعني بالعبرية "الجذور"، فأي جذور في هذه الأرض لهؤلاء الافراد المؤلفين من 25 اسرة اوروبية خزرية متهودة. بدأ إنسان هذه الارض بحسه الوطني تجاه ارضه في مقاومة هذه "المستخربة" بحصارها من الشرق لصد انتشارها السرطاني، حيث قام أحد المواطنين ممن اقتطع جزء من أرضه، بالتبرع بمساحة من الارض عام 1975م لبناء دار معلمات ومدرسة اخرى ابتدائية[v] وقام آخر عام 1980 بالتبرع بقطعة ارضه التي تقع غير بعيد عن "المستخربه" شرقا لبناء "مسجد"[vi] ، وقام آخرون بانشاء المصانع كسياج بشري في الوقت التي كرس فيه الاخرون جهودهم في زيادة المساحة المزورعة من الارض، كما ازداد الاقبال على استئجار أراض الوقف لزراعتها والسكن فيها بشكل دائم على الرغم من عدم تزويدهم باي مصدر من المصادر الضرورية للحياة كالمياه والكهرباء، هذا بالاضافة الى بناء إسرائيل سداً داخل الخط الاخضر لقطع المياه شتاءً عن وادي غزة وعن المنطقة بكاملها والتي تقدر بنحو 20 مليون م3، مما جعله واديا جافا لا ماء فيه طيلة العام، محدثة بذلك خللا بيئيا وغير انساني يتنافى مع الشرائع والقوانين الدولية الخاصة بمياه الانهار والاودية في العالم[vii]، وبخاصة ان الاجزاء الدنيا من الوادي تقع داخل منطقة المصب بما لا يقل عن خمسة كيلو مترات. وعلى الرغم من ذلك، زاد الاستغلال الزراعي لمنطقة وادي غزة الواقعة جنوبي "المستخربة" برمتها وعلى كلتا ضفتيه الشمالية (تل العجول – المغراقة – ابو مدين – البوليس الحربي) والجنوبية منطقة (البريج والنصيرات)، كنوع من انواع المقاومة والتمسك بالارض حيث أخذت هذه المنطقة ترفد القطاع بكرومها ذات الشهرة الذائعة وتينها وزيتونها وحمضياتها وخضارها، في حين لم تهدأ المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الذي باشر في الثمانينات باستخدام كافة الوسائل لخنق القطاع اقتصاديا، فازدادت انواع الضرائب وجبايتها بالقوة وبشراهة حتى وصلت حد السطو على البيوت ومصادرة اثاثها ودواجنها لحين دفع الضريبة، وازداد معه السجن والقتل ومنع التجول حتى كانت الانتفاضة الشعبية العارمة امرا تلقائيا في 8/12/1987. لا نغالي إذا قلنا أن الانتفاضة خلقت واقعا جديدا في نفوس الشعب، بل وأحدثت في البنية التكوينية للمجتمع الفلسطيني وضعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحتى نفسيا مختلفاً عما كان عليه سابقاً. لقد خلقت "تراثا" يمكن ان يطلق عليه "تراث الانتفاضة" التي استمرت مشتعلة دون انقطاع حتى عام 1994، بتوجيه من القوى الوطنية والحزبية التي بدأت بوضع الخطط لضرباتها في كل موقع وموضع من القطاع. انتشرت المقاومة باتساع مساحة القطاع في الشوارع والازقة بل وفي المدارس حتى وصلت احيانا إلى داخل المستشفيات. لم تكن هناك "مناطق احتكاك" معينة كما سنرى فيما بعد. كان الاحتكاك في كل مكان يتواجد فيه صهيوني على اختلاف مكانته العسكرية ومنزلته الادارية، وامتدت المقاومة النوعية لتطال المخربين الصهاينة من سكان "المستخربات" لانهم في الحقيقة لم يقووا على التوطن او التواجد فيها باستمرار. فلقد كانت المقاومة لهم بالمرصاد وبخاصة على الطرق المؤدية لها، وبصفة خاصة "طريق المنطار" الضلع الشرقي لمثلث ساحة الشهداء، وارض المغراقة التي اصبح لها شان خاص من الوجهه "الامنية" التي يتبناها قادة الجيش، حيث بدأت افواج السيارات تحرسها قوات الجيش، تسلك هذا الطريق "الشرقي" المؤدي الى مستخربة "نتساريم" ومنها الى طريق البحر الى قلب مدينة غزة بدلا من الطريق التي تخترق مدينة غزة رأساً، على يقين منهم بانه طريق خلوي بعيد عن الكثافة السكانية التي كانت تقذفهم بحجارتها داخل المدن والقرى. ونتيجة لهذا التحول بدأت المقاومة وباسلوب نوعي جديد تنصب لهم الكمائن على طول هذا الطريق الذي يطلقون عليه (كارني – نيتساريم) حيث بدأت هذه المستخربة "نيتساريم"، تلعب دورا محوريا ومركزيا بالنسبة لقوات الاحتلال وقيادتها، وعليه بدأت تتعامل مع السكان القريبين منها من اهالي "المغراقة" بكل قوة وعنف لأتفه الاسباب لتثير الرعب في نفوسهم، فقامت بنسف منزل في المنطقة بحجة عدم الترخيص في 19/7/1988م[viii]، وبدأ "المستخربون" في نتساريم بتنظيم دوريات على الطرق محاولين ازالة الاشجار باستخدام مبيدات كيمائية[ix] كسياسة تدميرية مبرمجة. وخلال الشهرين الأولين وحتى 8/10/1988، سقط 250 شهيدا واصيب سبعة الاف مواطن وتم اعتقال نحو 18 الف مواطن اضافة الى أربعة آلاف آخرين يمضون احكاما داخل السجون[x]. بانتهاء العام وصل عدد الشهداء الى 433 شهيداً. واستمرت الانتفاضة تقدم الشهداء معلنة رفضها للمحتل الذي بدأ ينتشر في طول القطاع وعرضه معلنا حربا شعواء ضد المواطنين مستخدماً كل وسائل القهر الاقتصادي من تدمير للبيوت واغلاق فرص العمل وسدها في وجوه العمال تارة ومواصلة الاستنزاف من خلال الضرائب، مستحدثاً نوعا جديدا منها لارهاق التّجار والملاك سُميت "مقدموت" اي مقدم تؤخذ من المواطنين على الطريقة الشايلوكية[xi]. ومع بداية عام 1993 ازدادت عمليات الدوريات العسكرية وازداد معها قدوم الجنود النظاميين لرفع الروح المعنوية لسكان "المستخربات" ومحاولة تأمين طرق المواصلات لهم وتم اعتماد ما عرف بسياسة كسر العظام[xii] ، حيث اصيب بالرصاص الحي 1700 مواطن واستشهد نحو 55 مواطنا في شهر مارس وحده من هذا العام، وبالتالي اصبحت "المستخربات" ومنها نيتساريم" اشبه "بلوكاندة" او مراكز لمبيت معظم رجال الادارة الصهيونية في المدن الرئيسة بالقطاع تقليلا لحركاتهم واختصارا لما سوف يتعرضون له من مقاومة مما دفع وزير الدفاع انذاك، "اسحق رابين" ان يحلم بغرق القطاع بمن فيه واختفائه في البحر. لذا حاول المحتلون شق طريق من جهة الشمال يصل "نيتساريم" بخط الهدنة. فتصدي له السكان ووقفوا سدا امام الجرافات[xiii] الا ان القوات المحتلة ومعهم "المستخربون" من نتساريم قاموا باضافة حوالي 300 دونم "للمستخربه" خربوا خلالها واجتثوا الاشجار والتين والزيتون والكروم التي تعود ملكيتها لعائلة "ابو مدين". هكذا بدأ سُعار ضم الاراضي والتجريف وشق الطرق في عام 1993 وهو عام "اتفاقية اوسلو" عام السلام، وهذا يذكرنا بحُمي الاستيطان واقامة "المستخربات" بعد حرب 1973 مباشرة. فعلى الرغم من بشائر السلام القادمة مع اتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993، فإن الانتفاضة استمرت وقدم ابناؤها في الثلث الاول من عام 1994 نحو 177 شهيدا ودمّر المحتلون 58 منزلا، لتصبح حصيلة الانتفاضة على مدى السنين السبعة سقوط نحو 1551 شهيدا وتدمير 921 منزلا في شتى انحاء الضفة الغربية وقطاع غزة [xiv].
انعقد عام 1991 مؤتمر مدريد وتلته اتفاقيات "اوسلو" عام 1993 حيث نشأ عنها تقسيم الأراضي إلى ا،ب،ج باسلوب اعتراه الابهام والتحايل. فاعتبرت المدًن الرئيسة وكذا القرى مناطق "ا" تم الانسحاب منها "كمناطق كثيفة السكان"، من وجهة نظر الصهاينة الذين اكتووا من انتفاضتها. ونظراً إلى أن "مستخربة نيتساريم" تقع ضمن نطاق حدود بلدية مدينة غزة والتي يعتبر وادي غزة حدّها الجنوبي، كان من المفروض زوال هذه "المستخربة" مقدما لأنها جزء من بلدية غزة. وهذا ينسحب على "مستخربات" كفار داروم في بلدية دير البلح "ومستخربات" خان يونس ورفح، التي تلامس مبانيها مدن خان يونس ورفح والتي ليس بينها إلا الاسلاك المفتعلة. فلو كان المعني من الانسحاب اولا من "المدن" بما تعنيه كلمة "مدينة" بزمامها البلدي والاداري لكفانا ذلك شرور هذه "المستخربات" بحكم موقعها داخل حدود "المدن" البلدية. ومما عمق تأثير البعد الجيوستراتيجي لهذه "المستخربات، وبالذات "مستخربه نيتساريم" ما اطلق عليه "الطرق العرضية". فقد جاء في البند السابع من البروتوكولات الخاصة بالانسحاب، فقرة "ا"، ان هناك ثلاثة طرق عرضية تصل اسرائيل "بالمستخربات" في القطاع هي: طريق كيسوفيم – غوش قطيف، طريق صوفا- غوش قطيف وطريق كارني (المطار) سابقا- نيتساريم، (بما في ذلك الجوانب المحاذية لها والتي يعتمد عليها امن المرور على طول هذه الطرق، وستكون للسلطات الاسرائيلية كل المسئوليات والصلاحيات الضرورية للقيام بنشاط امني مستقل بما في ذلك (دوريات اسرائيلية). [xv] كما جاء في نص الاتفاق بأن "الدوريات الاسرائيلية - الفلسطينية المشتركة " على طول الطرق العرضية تكون بقيادة السيارة الاسرائيلية". وفي البند السابع الخاص بالوحدات المشتركة المتحركة[xvi]، جاء في الفقرة "أ" تحديد اربع مناطق لمزاولة نشاط هذه الوحدات المشتركة (رجال امن اسرائيليين وفلسطينيين) وهي (1-مفرق نيسانيت -2-مفرق نيتساريم -3-مفرق دير البلح -4-مفرق صوفا–موراج) بلغت الانتباه ان البروتوكول قد انبرى لشرح مهام هذه الدورية فقط عند مفرق "نيتساريم" او "البوليس الحربي" حيث جاء في الفقرة "ب" منه "عند مفترق نيتساريم سيفحص الجانب الاسرائيلي في الوحدة المشتركة السيارات الإسرائيلية، التي تستطيع بعدها الاستمرار في رحلاتها من دون اي تدخل، وستعمل هذه الوحدة المشتركة المتحركة أيضا كدورية مشتركة بين مفرق نيتساريم ووادي غزة تحت توجيه مكتب تنسيق المنطقة المختص". فلماذا هذا التركيز على ما اطلق عليه مفترق نيتساريم " بالذات ؟! ولماذا يقوم الجانب الإسرائيلي فقط بعملية الفحص دون مشاركة مَنْ معهم من الفلسطينيين، وبخاصة ان هذه الطرق المؤدية اليه تأتي من قلب مدينة غزة سواء شارع صلاح الدين أو شارع المنطار الشرقي، ضلعي المثلث اللذين يصبان عند نقطة "مفترق نيتساريم" الذي هو مقر منطقة القوات المشتركة، وأي معنى أصبح لكلمة "مشتركة"؟ اما بالنسبة للطريق المؤدي إلى "المستخربة" رأسا والمتجه غربا، مارا بها ومنتهيا عند تقاطعه بشارع شاطئ البحر والذي سبق أن تم شقة عنوة، فقد جاء في الفقرة "الرابعة" من المادة "العاشرة" ما نصه "حق المرور الآمن والحر للفلسطينيين على طريق نتساريم البحر والطريق الساحلي". وبالرغم من صراحة النص فقد أثار الصهاينة العديد من الخلافات فيما بعد عند استخدامه من قبل المواطنين من ابناء القطاع وانتهى باستخدامه حينا واغلاقه احيانا !! والاجابة على هذه التساؤلات واضحة وقد ابانتها جليا انتفاضة الاقصى، فهذه المنطقة كما هو تاريخها هي "عُقدة" المواصلات بين شمال القطاع وجنوبه، بل بين عاصمة القطاع الادارية والسياسية والتجارية الحيوية والثقافية وكذا التعليمية، حيث تتركز معظم الجامعات والدوائر الحكومية والوزارات، والتحكم هنا في هذه "العقدة" يعني التحكم في شرايين مناحي الحياة المختلفة للقطاع بكامله كما سنرى. كما ان الطريق الشرقي هو خط مرور حيوي للقوات الإسرائيلية القادمة من جهة بئر السبع. ولكي يتم عزل القطاع بكامله عن العالم متى شاؤا، فقد جاء في البند السادس الخاص "بالحدود المصرية" ما نصه "ستكون منطقة المنشات العسكرية على طول الحدود المصرية في قطاع غزة كما هي محددة على الخارطة المرفقة رقم "1" بخط ازرق ومظلله باللون الوردي تحت السلطة الإسرائيلية. - كما جاء في الخريطة الاصلية - (انظر الخريطة رقم 7) وبذلك تم الامساك بجميع المفاصل الجغرافية الخانقة والحساسة للقطاع وأخطرها " نقطة مفرق الشهداء او البوليس الحربي سابقا ". بالاضافة إلى ذلك نص الاتفاق على ما سمي بالمنطقة "ب" صاحبة "اللون الاصفر" والتي تحف بصفة خاصة بجميع "المستخربات" وهي اشبه بالمجال الحيوي في علم الجيوبولتيكا، وتعني ان هذه الارض خاضعة "أمنيا" لقوات الاحتلال واداريا للسلطة الوطنية الفلسطينية. ومفهوم الامن يفسرونه هم لوحدهم، بمعنى أنه لو قُذف حجر من هذه المنطقة حق لهم الاستيلاء عليها او العبث والتخريب بها كما يشاؤون، لذا فقد حرصوا ان تمتد هذه المنطقة الصفراء بالنسبة لمستخربة "نيتساريم" حتى شاطئ البحر بمساحة 350 دونما لتعتقل الطريق الساحلي المؤدي الى المناطق الجنوبية وتكمل القطيعة من "مفرق الشهداء" الى البحر (انظر الخريطة 8). وبناء عليه ووفقا لبنود الاتفاق، خرجت القوات من مناطق الكثافة السكانية والاخطبوط السكني في مراكز المدن[xvii]، لا من حدودها البلدية، وتموضعت في "المستخربات" التي تعتبر داخل المدن بالمفهوم البلدي، وعلى الطرق والنقاط الحساسة المؤدية اليها. اي انهم انتقلوا من مرحلة الانتشار والتمدد المبدد لقواهم الى مرحلة الانحسار والتكثف في "المستخربات" والمواقع العسكرية الحصينة المتحكمة في مداخل ومخارج وطرق المدن الرئيسة، وبناء عليه أدركت السلطة الوطنية الابعاد الخطيرة لموقع "نيتساريم" والطريق المتحكمة فيه، فبدأت في حصارها ديمغرافيا وجغرافيا. فعلى المستوي الديمغرافي "سكنا وسكانا"، امتلك الكثير من الناس أو استأجروا أراضي من الوقف في منطقة "المغراقة" التي تخترقها الطريق المؤدية إلى مستخربة نيتساريم. وتم امداد المنطقة بكل الخدمات البلدية ومنحتها السلطة المحلية منزلة القرية، فأصبح لها مجلس قروي وتم تعمير المنطقة الواقعة إلى الشرق منها في منطقة جحر الديك، وجعلت لها مجلساً قروياً. كما قامت ولأول مرة في تاريخ هذه المنطقة بانشاء مدينة اطلق عليها "مدينة الزهراء" على مساحة تقدر بنحو 360 دونما تضم 3500 وحدة سكنية يقطنها ثلاثة آلاف نسمة الى الجنوب من "نيتساريم" مما شجع السكان على بناء ابراج سكنية على اراضيهم بالقرب من المفرق مباشرة والموقع العسكري من جهة الجنوب، هذا الموقع غير الموجود في بروتوكولات الانسحاب المنصوص عليها حيث اقامه المحتلون سنة 1996 كبرج للمراقبة وكرأس حربة متقدم على اثر مقتل ثلاثة جنود. والى الجنوب من مدينة الزهراء هناك مشروع لانشاء محطة كبيرة لتوليد الطاقة الكهربائية. اما جهة الغرب، فقد بوشر بالعمل على بناء ميناء مدينة غزة والتي وقفت سلطة الاحتلال بكل قواها للتصدي اولا ضد اختيار موقعها عند مصب الواد، وهو الموقع الامثل جغرافيا، ليتزحزح شمالا إلى الغرب من "مستخربة نيتساريم". اما شمالها، فإن ضغط الكثافة السكانية الهائلة في مدينة غزة دفع الناس لاستغلال الاراضي الزراعية في البناء والسكن على طول الطريق الممتد من مدينة غزة حتى مفرق الشهداء (شارع صلاح الدين) الذي كان مهجورا قبل عام 1967 الا من المزارعين. وبهذا أصبح العنصر الديمغرافي سكنا وسكانا قوة ضاغطة. حاول الجنود الاسرائيليون في نقاط الحراسة لهذه "المستخربات" والتي اطلق عليها مناطق الاحتكاك التصدي لابناء الشعب الفلسطيني الاعزل إذا ما عبّر عن مشاعره الوطنية الناجمة عن اعتداءات العسكر، كما حصل في انتفاضة "النفق" في الفترة الواقعة ما بين 24/9/1996 – 27/9/1996، حيث برز الدور الدموي البشع "لنقاط الاحتكاك العسكرية" في منطقة "المغراقة" او "البوليس الحربي" او "مفرق نيتساريم" في اطلاق الرصاص على المتظاهرين من الطلبة والطالبات (كلية التربية ومدرسة خديجة بنت خويلد الابتدائية)[xviii] ، ومن ابناء حركة الشبيبة يوم 26/9/1996 كما اعتدوا على قوات الامن الفلسطيني مما أدى إلى اصابة العديد من الطلبة واستشهاد البعض فاندفع ابناء غزة والمعسكرات الوسطى غاضبين نحو البرج العسكري الاسرائيلي واستولوا عليه لعدة ساعات، قامت بعدها قوات الاحتلال بمحاصرة المنطقة بالدبابات والمجنزرات والمروحيات. وقد سقط في هذه المواجهة 12 شهيدا في هذا المفرق من مجموع 83 شهيدا في انحاء الضفة والقطاع، واصيب العشرات من بينهم رجال من الامن الفلسطيني، كما وقتل جنديان اسرائيليان وجرح عدد آخر منهم [xix]. وتجلت غطرسة هذا الموقع العسكري بالرغم من موقعه وموضعه الجغرافي ضمن نفوذ وسيطرة "القوات المشتركة"، لانه يحتل ركنا من زاوية "المفرق" اي "مفرق نتساريم" حيث استمر في عدوانه كمشتل للمشاكل وللقتل والفصل. فمنذ بداية عام 1995، قامت سلطات الاحتلال باغلاق الطريق البحري المؤدي الى مستخربة "نيتساريم" لمدة عامين، منعت خلالها مرور افراد الشعب من استخدام هذا الطريق[xx]، مخالفة بذلك الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي الذي ينص وفقا للفقرة الرابعة من المادة العاشرة من "اتفاق غزة – اريحا" على حق المرور الآمن والحر للفلسطينيين على طريق "نيتساريم" البحر والطريق الساحلي. الا ان عسكر الاحتلال وقفوا بالمرصاد لاعاقة المرور في هذا الطريق فيما بعد واخذوا يستفزون المواطنين بين الحين والاخر. وقد اتضح ذلك جليا باستخدامهم السلاح وقتل وجرح المواطنين خلال الذكرى الخمسين للنكبة وبالتحديد يوم 15/5/1998 حيث اسُتشهد ثمانية مواطنين من القطاع جميعهم عند "مفارق الطرق" من مفرق نسانيت عند بيت حانون مرورا بمفرق "نيتساريم" اي مفرق الشهداء وموراج وعند بوابة صلاح الدين برفح. مفرق الشهداء من 1/9 - 28/9/2000 نستعرض وقائع هذا الشهر الذي سبق انتفاضة الأقصى ردا على تفوهات "شارون" القائلة بأن، الاحداث التي وقعت في منطقة "مفرق الشهداء في هذه الايام هي السبب لانتفاضة الاقصى، وليس بسبب تدنيسه للحرم القدسي الشريف. فقد شهدت الايام التي سبقت انتفاضة الاقصى وضعاً جيوستراتيجياً للقوات الاسرائيلية، بدت فيه العديد من التعزيزات العسكرية والتحركات غير العادية لتلك القوات بشكل استفزازي. ففي بداية شهر سبتمبر 2000، اقامت القوات الاسرائيلية خمسة مواقع عسكرية محصنه ومزودة برشاشات ثقيلة الية وقاذفات قنابل في المفارق الخمسة، الأول عند "معبر بيت حانون" على بعد خمسين مترا من الطريق الرئيسي، والثاني عند مدخل مستخربة "نيتساريم" والثالث على طريق "القرارة"، والرابع عند "مفرق موراج " بين خان يونس ورفح، والاخير بالقرب من بوابة صلاح الدين برفح. وقد احتج الجانب الفلسطيني على وجود هذه التعزيزات العسكرية[xxi] وجميعها مخالفة تماما لكل الاتفاقات المعقودة بين الطرفين، في حين لم يحدث أي تغيير لقوات الشرطة الفلسطينية لا في موضعها ولا تسليحها الشخصي الخفيف. وفي 16/9/2000 قامت القوات الإسرائيلية بفتح نيران رشاشاتها عند "مفرق الشهداء" وبشكل متعمد على مسيرة طلابية سلمية بمناسبة ذكرى – مجزرة صبرا وشاتيلا[xxii]، التي كان مدبرها والمشرف عليها "شارون " عام 1982، وهو نفسه قائد نفس المجزرة التي حدثت لجنودنا يوم 28/2/1955 وفي نفس "المفرق" اي مفرق "البوليس الحربي". وفي 24/9/2000 اصيب ثمانية مواطنين بجروح اثر حادث طرق بين سيارة مدنية فلسطينية وأخرى إسرائيلية عند "مفرق الشهداء"، وذلك بعد ساعات قليلة من احتكاك خطير وقع بين اكثر من عشرين جنديا اسرائيليا ومجموعة من الدورية المشتركة، بسبب محاولة التدخل الإسرائيلي في عمل شرطي المرور الفلسطيني المتواجد في المفرق، وذكر شهود عيان ان الاسرائيليين المتواجدين في المفرق قد تدخلوا بشكل سافر وكادت ان تحدث كارثة. وقد علّق قائد فلسطيني على الموقف قائلا "لا حل للمشكلة الا بازالة هذا الموقع العسكري المقام على ارض فلسطينية ويتنافى مع الاتفاقات"[xxiii]. وفي 27/9/2000 أعلنت إسرائيل عن اصابة ثلاثة من جنودها في انفجار قرب "نيتساريم"، ورفض مسئول امني فلسطيني الاعتراف او التعاطي مع هذا الحادث، وقد افاد المصدر المسئول ان افراد اللجنة الامنية المشتركة قد سمعوا صوت الانفجار واطلاق نار في التاسعة والنصف من مساء 27/9/2000 على الطريق الواصل بين "معبر المنطار" "ومفرق الشهداء" ،وقبل وصولهم للمكان اعترض عشرات الجنود الاسرائيليين طريقهم ومنعوهم من الاقتراب من مكان الانفجار او مشاهدة المصابين او حتى معاينة المكان وظروفه، واكد المصدر الامني ان هذا التصرف يخالف الاتفاق الامني المشترك وكذلك الاعمال العسكرية المتبعة في مثل هذه الحوادث[xxiv]. فهل كان هذا الحادث مصطنعا على طريقة "الشرارة المصطنعة"، التي تسبق اي هجوم اسرائيلي مدبر؟
هكذا كان الواقع الجيوستراتيجي لمنطقة "مفرق الشهداء" قبل انتفاضة الاقصى بأيام، بل
وافادت مصادر فلسطينية عليا انها كانت على بينه من محاولة "شارون" الليكودي تدنيس
الحرم القدسي وحذرته وانذرت رئيس الوزراء "بارك" من مغبة ما سوف يحدث نتيجة هذه
الزيارة. فهل كان ذلك محض صدفة ؟ لقد مهدت إسرائيل ومع سبق الاصرار والترصد لتفجر
المنطقة، بحيث لم يبق لهذا الانفجار الا الصاعق المفجر لها، فكان "شارون" وزيارته
في اليوم التالي الخميس 28/9/2000[xxv]
تحت حراسة مئات من جنود رئيس الوزراء "باراك". وبالفعل انفجر بركان الانتفاضة
"انتفاضة الاقصى" منذ اللحظة الاولى لمحاولة شارون تدنيس الحرم القدسي الشريف،
انتشرت الانتفاضة في جميع انحاء الوطن في الوقت الذي كانت فيه جميع النقاط العسكرية
الإسرائيلية في مناطق "الاحتكاك" وفي "مفارق الطرق" والطرق العرضية قد أخذت عُدّتها
باسلوب وتكتيك عسكري لم يسبق له مثيل. وكانت ردة فعل الشعب مختلفة لانه يعيش في
مناخ يختلف عن ذلك الذي عاشه في الانتفاضة الاولى بين عامي هل حقا كان "مفرق الشهداء سبباً في انتفاضة الاقصى ؟ ادعى شارون حين قام بتدنيس الحرم في 29/9/2000، بأنه لم يقم بزيارة الحرم وانما "للهيكل" المزعوم، والذي اثبتت جميع الدراسات والحفريات الاركيولوجية وعلى مدى ثلاثين عاما من قبل الاسرائيليين انفسهم بان لا وجود له ولا لأي اثر للتواجد اليهودي في المنطقة، 29/9/2000 وأخذ يزايد على باراك بان "أي تقسيم للقدس هو خطأ تاريخي كبير". هذه اول مرة يوافق فيها زعيم يهودي على تقسيم القدس عاصمة الشعب اليهودي منذ ثلاثة الاف عام"[xxvi]!! وأمام تصاعد الاتهامات له بسبب تلك الزيارة وتحميله مسؤولية اندلاع الانتفاضة في 2/10/2000 وجد شارون نفسه مضطراً للتنصل من هذه الممارسات بادعائه "ان احداث الشغب ما هي الا جزء من حملة مخطط لها مسبقا بدأت قبل عشرة ايام في منطقة نيتساريم (مفرق الشهداء) بقطاع غزة وانتشرت من هناك الى القدس والسامرة وليس زيارتي للمسجد الاقصى هي التي اشعلت الاضطرابات"[xxvii]. وادعى في مقال كتبه في الجيروزاليم بوست يوم 3/10/2000 بان رجال الامن الفلسطينيين خططوا وقاموا بهجمات مسلحة مستخدمين المتفجرات ضد الجنود المدنيين في منطقة نيتساريم قبل ايام من زيارته"[xxviii]. ومما يزيد يقيننا باستعداد القيادة الإسرائيلية لهذه الهجمة والاعداد لها مسبقا هو تحريض اذرع الامن المحتلة وتحذيرها لرئيس الوزراء "باراك" بعد عودته من كامب ديفيد الثانية 23/7/2000، بأن الانفجار اصبح وشيكا في المناطق الفلسطينية نتيجة للاحباطات المتراكمة، وكانت هذه الاجهزة الإسرائيلية قد اعدت الخطط واكملت جاهزيتها للتعامل مع أي مواجهة شعبية مستخلصة العبر من "انتفاضة النفق" وتنتظر المصادقة عليها من المستوي السياسي[xxix] وكانت زيارة "شارون" وحماية "باراك" له بجنده بمثابة "الشرارة" والمفجر للانتفاضة، وبخاصة أنهم مغرمون بافتعال "الشرارة" المصطنعة لتنفيذ مآربهم العسكرية.
"مفرق الشهداء" ثكنة عسكرية وساحة ميدان دامية : اصبحت منطقة "البوليس الحربي" منطقة تصادم بين افراد الشعب من شتى مناطقه الجغرافية شمالا من ابناء مدينة غزة ومعسكراته وجنوبا من المدن والمعسكرات بحكم موقعه الجغرافي، فاصبح هذا المفرق بالتالي اشد المناطق مقاومة لما لاقاه من ضراوة وشراسة العنف العسكري الاسرائيلي والمستخربين المتمركزين في "نيتساريم" تساندهم الدبابات والمجنزرات والطائرات المروحية التي اطلقت صواريخها وشتى انواع الاسلحة المحرمة دوليا ضد الاطفال والشباب، فأوقعت خلال الأيام العشرة الأولى من الانتفاضة واحداً وعشرين شهيدا و850 جريحا[xxx]. ومن استعراضنا للتوزيع الجغرافي للشهداء في هذه الفترة الوجيزة في جميع مناطق احتكاك محافظات غزة، نجد شراسة الاحتلال واضحة في هذا المفرق بالذات، حيث استشهد نصف شهداء القطاع على أرضه، فأطلق عليه "مفرق الشهداء".
ثم بدأت قوات الاحتلال تخرج عن طورها، فقامت الطائرات المروحية باطلاق اربعين قذيفة صاروخية لتدمير برجين سكنيين تدميرا تاما، مما شرد تسع وثلاثين عائلة، ودمرت موقعاً فلسطينياً تابعاً لقوات الارتباط واصابت خمسين مواطنا يوم 2/10/ 2000. وفي اليوم التالي 3/10/2000 واصلت المروحيات قذائفها الصاروخية على المواطنين والمباني، فقتلت ثلاثة واصابت تسعة وخمسين مواطنا[xxxi]، وجرفت من الاراضي المحيطة "بالمفرق" يوم 7/10/2000 ما مساحته خمسة وعشرون دونما من اشجار الحمضيات والزيتون ودمرت المضخات والابار والخزانات[xxxii]. اما بالنسبة للمصانع المجاورة "للمفرق" فقد دمروا مصنعا للجرافات بما فيه من آلات ومواد خام ولم يسمح لمالكه بنقل اي شئ منها، وقد قدرت خسائره بنحو مليون ونصف المليون دولار، ويعمل بهذا المصنع ثلاثون عاملا يعيلون ثلاثين اسرة ويمّول المصنع احتياجات القطاع والضفة من الحديد المسكوب[xxxiii]. ثم اغلقوا الطريق البحري المؤدي الى "المستخربة" وطريق الساحل ومنطقة المغراقة واخذوا يمطرونها بوابل من الرصاص ليل نهار، محاصرين سكانها البالغ عددهم 4260 نسمة، ومنطقة جحر الديك 2685 نسمة، بالاضافة الى سكان مدينة الزهراء نحو 3 آلاف نسمة[xxxiv]. كل هذا من اجل حماية حفنة من "المستخربين". هكذا اصبحت "النقطة العسكرية الاسرائيلية" التي تتموضع بصورة غير شرعية عند مفترق الطرق، والتي يتمترس بداخلها ثلاثة جنود على اكثر تقدير، تقع وسط مساحة شاسعة من ارض خلت من كل شجر او حجر تحرسها الدبابات والمروحيات ولا تطالها حجارة الشباب، مما دعا إلى تغيير أساليب الانتفاضة وتكتيكاتها بما يتلاءم واساليب العسكرية الاسرائيلية في المواجهة والتصدي، وذلك بتوجيه ضربات نوعية متمثلة في وضع عبوات ناسفة على الطريق الشرقي وطريق البحر المتجه الى "مستخربة نيتساريم"، والاتجاه بانتفاضة الشعب نحو معبر"المنطار" توأم "مفرق الشهداء" وصمّام امنه والممر الاضطراري لقوات الجيش الاسرائيلي وقطعان "مستخربة نيتساريم". فقد انفجرت عبوة ناسفة يوم 15/10/2000 في دورية عسكرية قرب "مستخربة نيتساريم "، وفي 16/10/2000 تصدى حوالي 300 جندي من قوات الامن الوطني الفلسطيني لجنود الاحتلال الاسرائيلي عندما حاولوا توسيع "الموقع العسكري" عند المفرق واجبروهم على نقل معداتهم[xxxv]. وعليه اتخذت القوات الاسرائيلية موقفا مضادا لهذه القوات الفلسطينية وذلك بضرب مواقعها بالصواريخ يوم 31/10/2000 وحوّلت في اليوم نفسه منطقة "المنطار" الى ساحة حرب عنيفة استشهد فيها اربعة[xxxvi] واصيب ستون مواطنا بجروح[xxxvii]. مما حدى بصحيفة "يديعوت احرنوت" ان تحذّر قائلة "اننا تحولنا الى جالوت الذي اصبحت قوته وجبروته مصدر ضعفه امام داوود المسلح بالمقلاع والحجر"[xxxviii]. واستمر طغيان قوات الاحتلال وجبروتها في الشهر الثاني من الانتفاضة (شهر نوفمبر) في منطقة "مفرق الشهداء" على الرغم من اتساع دائرة المفرق، الا ان المقاومة انتقلت الى الداخل المعمور في "المغراقة" حيث اصيب عشرة شبان من ابنائها يوم 7/11/2000 وجرت مواجهات عنيفة وسط الطريق المؤدي الى "المستخربة" فقاموا بغلق هذا الطريق حتى منطقة المنطار لشدة المقاومة في المنطقة الاخيرة، والتي استمرت عند "المغراقة" حتى نهاية الشهر حيث اصيب عدد من المواطنين يوم 20/11/2000، وعلى اثرها استولت قوات الاحتلال على عشرين دونم من الاراضي الواقعة عند خط السكة الحديد القديم على امتداد الطريق المؤدي الى "المستخربة" بطول 7000 متر وعرض ما لا يقل عن 12 مترا[xxxix]. وفي يوم 23/11/2000 قاموا بتجريف خمسين دونما مزروعة بالبرتقال والزيتون عند "مفرق الشهداء" لكي يزيدوا من اتساع رقعة الفضاء حول المفرق، وأغلقوا الطريق بالكتل الأسمنتية كي يحاصروا سكان منطقة "المغراقة" في انتفاضتها، وقاموا بفصلها عن باقي سكان القطاع مما دفع المواطنين إلى مجابهة قوات الاحتلال ومقاومتهم يوم 30/11/2000[xl].
حقا
لقد انتقل مركز ثقل المقاومة الشعبية الي "الضلع الشرقي" لرأس المثلث
في حين بلغ عدد شهداء محافظات الضفة الغربية في هذا الشهر ثمان وستون شهيدا[xli]. استمرت الهجمة الشرسة لقطعان "المستخربين"تساندهم غطرسة قوات الاحتلال العسكرية التي استخدمت كافة الوسائل القتالية يوم الاثنين الموافق 20/11/2000، فأطلقت طائرات الاباتشي صواريخها ضد مواقع السلطة الوطنية والمناطق الخاضعة لها، دون ادني احساس او احترام للانسانية او للاتفاقيات الشرعية تساندها الزوارق البحرية وكانها حرب شاملة ضد المواطنين الُعزّل. واثناء الليل، قامت بتقطيع اوصال القطاع جغرافيا الى تسعة اقسام، كان محورها الرئيسي "مستخربة نيتساريم" والنقطة العسكرية الرابضة على "مفرق الشهداء" كرأس حربة تعزل مدينة غزة وقراها الشمالية ومعسكراتها عن باقي مدن وقرى القطاع الجنوبية، بحيث اصبح حصارا تعسفياً على المواطنين ومصادرة لرزقهم ومجرى حياتهم اليومية. بل إن هذا الحصار وصل إلى حد اصابة العملية التعليمية اصابة لا انسانية تمثلت في منع وصول تسعمائة مدرس من المنطقة الوسطى الى مدارسهم وطلابهم بمدينة غزة فقط (المدارس الحكومية)[xlii] بحيث بلغ متوسط غياب المدرسين ما بين 6 الى عشرين مدرساً في كل مدرسة في شهر ديسمبر من عام 2000 المتزامن مع امتحانات نهاية الفصل الدراسي الاول، مما خلق بُعداً شاسعاً بين الطالب والمادة العلمية في شهر الامتحانات هذا. وعلى الرغم من كل هذا، استمرت الانتفاضة طيلة شهر ديسمبر حتى بلغ شهداؤها ستة وعشرين شهيداً في مناطق احتكاك القطاع وبؤرته "منطقة المنطار" التي استشهد فيها احد عشر شهيداً وثلاثة شهداء من خان يونس وآلاف الجرحى[xliii]. هكذا تحرك مركز ثقل المقاومة الشعبية من "مفرق الشهداء" الى منطقة المنطار، والذي يمثل رأس الجسر الموصل الى "مفرق الشهداء" ومن ثم الى "مستخربة نيتساريم". وهذا ما يلاحظ من عدد الاصابات والشهداء طيلة شهر ديسمبر من عام 2000 وأشهر بداية عام 2001 م. مستخربة "نيتساريم" تعزل مدينة غزة عن بقية مدن القطاع: ونتيجة لخطورة موقع "مفرق الشهداء" والطريق المؤدي منه إلى "المستخربة نيتساريم"، فقد إستغل العدو هذا الهدوء النسبي في هذا الموضع وبدأ في تنفيذ أنواع جديدة من العوائق تمثلت في وضع الكثبان الرملية وتكسير الطريق المسفلتة بالجرافات، اضافة لعمليات التجريف للأراضي الزراعية المحاذية للشاطيء والمزروعة بجميع أنواع الخضروات بمساحة لا تقل عن 200 متر طولاً. كما صدرت أوامر للجيش في شهري يناير وفبراير 2001 باطلاق النار على المواطنين الذين يقتربون من المفرق "نيتساريم" مشياً على الأقدام. ويعُد هذا التصريح، بحسب تعديلات الجيش ساري المفعول على ساعات الليل والنهار[xliv]، لاعتقادهم ان هذا "المفرق" أي مفرق الشهداء بالذات يشكل خطراً على حافلات ما يسمونهم "بالمستوطنين" ويصفونهم بالمدنيين. فهؤلاء الجنود المدججون بالسلاح لا يتورعون عن اطلاق النار في اتجاه أي شخص تلمحه عيونهم في المكان، لا لسبب سوى انهم اصبحوا متعطشين لقتل أي فلسطيني، فاصابوا اطفالاً ونساء من ابناء المغراقة بل واختطفوا اربعة شباب يوم 29/1/2001 واقتادوهم "لمستخربة نيتساريم"[xlv] . وعليه أصبح هؤلاء الجنود يلعبون دوراً في فصل مدينة غزة بكتلتها السكانية البالغة 424 الف نسمة عن باقي القطاع وحصار سكان "المغراقة" بالدبابات [xlvi]، مما أدى إلى اصابة بعض الأطفال بالصدمة وعدم القدرة على الكلام بشكل سليم جراء ما تشهده المنطقة يومياً من اطلاق النار لقربها من "مستخربة نيتساريم"، كما أفاد بذلك خبراء برنامج دراسات التنمية التابع لجامعة بيرزيت لدى زيارتهم لمنطقة المغراقة[xlvii]. وبلغ التعسف أقصى مدى له عندما قام جنود الاحتلال بسد الطريق تماماً بالدبابات والمجنزرات التي تمركزت عند طرفي الطريق المؤدي الى "المستخربة" ومنعت سكان الجنوب من التوجه لمدينة غزة ومعسكراتها[xlviii]، لدرجة أن السكان لم يجدوا طريقاً سوى شاطئ البحر الذي يفصله عن الطريق جرُف عال ومتضرس يمنع تواصل الطريق الساحلي والبحر، فأخذ السكان يشغلون هذه الشقة الضيقة من طريق الشاطيء الذي تغمره مياه البحر والجرف، متفادين الدبابات الرابضة على الطريق ليسيروا على اقدامهم مسافة 200 مترا، لكي يعودوا للطريق المسفلت من جديد. كما حاولوا تدمير "المسجد" الوحيد في منطقة المغراقة والمقبرة المجاورة له[xlix] وقد ردت المحكمة العليا الإسرائيلية على مواطني المنطقة بناءاً على التماس تقدموا به، مطالبين بعدم المس بالمسجد والمقبرة قائلة: "بأن ما يجرى في قطاع غزة والضفة الغربية هما احداث حربية، مما يعرض حياة الانسان وممتلكاته للخطر ويمس بأمن قوات الجيش الاسرائيلي والمدنيين – أي "المستخربين" – مما يضطر جيش الدفاع لتوفير الحماية للذين يستعملون الطريق العرضية للاستيطان الاسرائيلي من خلال اعمال تسوية الارض وبضمن ذلك اقتلاع الأشجار وهدم الأسوار"، وأوضحت المحكمة العليا: "أن هذه الإجراءات جزء من قوانين الحرب" [l]. هكذا تبيح المحكمة العليا الاسرائيلية الهدم والتدمير واقتلاع الاشجار وكل ما هو حي باسم "الحرب" واي حرب ؟! تلك الحرب التي كانت حصيلتها منذ بدء هجومهم الوحشي وحتى 15/2/2001، اقتلاع وتجريف 7024 دونما من أراضي القطاع فقط، منها 78.2% أراضي زراعية خصبة والباقي اراضي حرجية ورملية، وهدم 94 منزلاً سكنياً، فضلاً عن تدمير الآبار وبرك المياه والغرف المقامة عليها ومخازن زراعية[li]. هذه الممارسات بدأتها "مستخربة نيتساريم" وتلتها بقية "المستخربات" التي تحرسها الدبابات ضد شعب أعزل لا يملك في مقاومته سوى الحجر !! . الملاحق :
خريطة (7)
خريطة (8)
المراجع : [i] مذكرات شارون – المرجع السابق ص338 . [ii] المرجع السابق ص334 –335 . [iii] نشرة وزارة التخطيط – غزة – 1997. [iv] من هذه العائلات – الوحيدي – السقا – الريس .. الخ وكذلك العديد من عائلات يقطنون حي الزيتون بغزة. [v] المرحوم شعبان الريس. [vi] المحسن المرحوم شكري السقا والذي قضمت "المستخربة" من ارضه 22 دونما، والاسفلت سبعة دونمات ونصف ،وهكذا بقية الملاك من عائلة "الوحيدي – والريس" وابو كميل … الخ [vii] هذا الوادي بمياهه كان يغذي المنطقة زراعيا، ورواسبه من الحصى والزلط في القطاع كانت بمثابة المادة الرئيسية في عملية البناء. [viii] البيت يعود للمواطن عبده محمود كميل البالغ من العمر 60 عاما . [ix] جريدة الجيروزلم بوست عدد يوم 19/8/88م. والبيادر السياسي العدد 316 الصادر يوم 10/9/1988ص17. [x] مجلة البيادر السياسي – العدد 311 الصادر يوم 6/8/1988 . [xi] واذا تأخر المواطن عن موعد دفع هذا المبلغ ولو يوم واحد تحسب عليه نسبة الفائدة التي تضاف على المبلغ المطلوب. [xii] في هذه الاونة كان وزير الدفاع "اسحق رابين، وكان رئيس اركان الجيش يهود براك ونائبة امنون شاحاك. [xiii] جريدة الشروق – العدد 388 الصادر يوم الثلاثاء 6/4/1993 ص4-5. [xiv] أحمد العلمي، يوميات الانتفاضة، وزارة الأعلام الفلسطينية، اعداد سنوات 1989-1994، 1995. [xv] بروتوكولات بشان انسحاب القوات العسكرية الاسرائيلية والترتيبات الامنية – الملحق رقم 1 ص22. [xvi] انظر البروتوكولات – المصدر السابق ص23-24. [xvii] تبلغ مساحة العمران والسكن المدني في غزة وحدها نحو ثلاثين كيلو متر مربع . [xviii] كلية التربية ومدرسة خديجة بنت خويلد الاساسية الدنيا المشتركة "لا تبعدان عن الموقع العسكري الاسرائيلي القابض على مفرق الشهداء الا بضعة امتار فقط. [xix] المواجهة الفلسطينية الاسرائيلية "معركة الاقصى " – مركز التخطيط الفلسطيني – السلطة الوطنية عدد 252 – ط2 فبراير 2001 ص47-48. [xx] جريدة الحياة الجديدة – عدد يوم 15/5/1998. [xxi] اصطحب احد القادة الفلسطينيين مجموعة من الصحفيين للاطلاع على هذه الخروقات العسكرية انظر جريدة الحياة – العدد الصادر يوم 18/9/2000 ص1و15. [xxii] جريدة الحياة الجديدة، عدد 18/9/2000 ص1 . [xxiii] جريدة الحياة الجديدة – عدد 25/9/2000 ص1و23. [xxiv] جريدة الحياة الجديدة – عدد الخميس 28/9/2000 ص1، 15 . [xxv] المصدر السابق . [xxvi] جريدة الجيروسالم بوست – عدد 29/9/2000. [xxvii] جريدة الجيروزاليم بوست عدد يوم 2/10/2000 . [xxviii] جريدة الجيروزاليم بوست عدد يوم 3/10/2000 . [xxix] مركز التخطيط – قضايا اسرائيلية - [xxx] جريدة القدس – العدد الصادر يوم 10/10/2000 وانظر – احداث فلسطينية السنة السادسة – العدد 70 – انتفاضة الاقصى – اكتوبر 2000 ص160. [xxxi] جريدة الايام - [xxxii] منها خمسة عشر دونما من بيارة السيد / ابراهيم الاشرم وعشرة دونمات من بيارة حيدر شراب وخزانات للسيد عطا ابو ظاهر (نشرة الميزان )– المرجع السابق ص27. [xxxiii] تعود ملكيته هذه المصنع للمواطن محمد رمضان العشي (نفس المصدر المرجع السابق ونفس الصفحة). [xxxiv] دائرة الاحصاء الرسمية – جدول رقم 13ا و 13ب ص101 . [xxxv] الاحداث الفلسطينية – السنة السادسة – العدد 70 المرجع السابق ص194 . [xxxvi] هؤلاء الشهداء هم : شادي عوض عودة 22 سنة، ومحمد خزاع حلس 23 سنة، ومحمود احمد ابو الخير 20 سنة، وحازم ابو موسى دف وعمره 22 سنة وجميعهم استشهدوا يوم 31/10/2000. [xxxvii] جريدة الايام عدد يوم 21/10/2000 . [xxxviii] جريدة البيان – دبي العدد الصادر يوم 30/10/2000. [xxxix] جريدة الايام – عدد يوم 24/11/2000. [xl] جريدة الايام عدد يوم 1/12/2000 . [xli] الاحداث الفلسطينية – العدد 71 شهر نوفمبر 2000 – مركز التخطيط الفلسطيني – غزة – ص187 - 193 [xlii] الارقام مأخوذة عن مديرية التربية والتعليم – غزة . [xliii] المركز الفلسطيني للاعلام – ملف حول انتفاضة الاقصى – كانون الاول 2000 – غزة . [xliv] صحيفة هآرتس – عدد 27/2/2001 وانظر جريدة الرسالة عدد 1/3/2001 ص7. [xlv] جريدة الحياة الجديدة عدد 31/1/2001 ص5. [xlvi] جريدة الحياة الجديدة عدد يوم 14/1/2001 ص4. [xlvii] جريدة الايام – عدد 3/3/2001 ص4. [xlviii] جريدة القدس – عدد يوم 23/2/2001 وانظر ايضاً جريدة الحياة الجديدة – عدد الاربعاء 28/2/2001 [xlix] مسجد السقا الذي تبرع بإنشائة المرحوم شكري السقا السابق الذكر . [l] جريدة القدس – عدد يوم 28/2/2001 . [li] جريدة الايام عدد 22/2/2001 .
|
|